AUC
//
Art

روبرت كولسكوت

سنوات القاهرة

بقلم تيري جينسبرج ودونكان مكدونالد
ترجمة إيهاب عبد الحميد
يُعد الفنان الأمريكي الأفريقي الراحل روبرت كولسكوت (1925-2009) أحد أهم الفنانين الأمريكيين الحداثيين، إذ تُعرض لوحاته في متاحف عدة في شتى أرجاء الولايات المتحدة، من أبرزها متاحف "مؤسسة سميثسونيان"، و"متحف المتروبوليتان للفنون"، و"متحف الفن الحديث"، و"متحف ويتني للفن الأمريكي". في عام 2019، افتُتح أكبر وأشمل معرض استعادي للوحات كولسكوت، ولا يزال قائمًا حتى اليوم. معرض "روبرت كولسكوت: سنوات القاهرة" يعيد، للمرة الأولى، عرض أربع لوحات نموذجية من تلك الفترة الحاسمة من حياته، مصحوبة بوثائق أرشيفية، وصور، وعروض فيديو وثيقة الصلة بتلك الفترة، أضيف إليها في الآونة الأخيرة مقابلات صوتية مع نقاد ومؤرخين فنيين وثقافيين.

يبرز إسهام الجامعة الأمريكية بالقاهرة في المشهد الفني القاهري الصغير، إنما النابض بالحياة، حين رحبت بكولسكوت بأصوله الأفريقية داخل هيئة تدريسها، ودعمت مساعيه للترويج لحداثة مصرية، لا سيّما في فترة من أحرج فترات تاريخ الجامعة.

يُعد الفنان الأمريكي الأفريقي الراحل روبرت كولسكوت (1925-2009) أحد أهم الفنانين الأمريكيين الحداثيين، إذ تُعرض لوحاته في متاحف عدة في شتى أرجاء الولايات المتحدة، من أبرزها متاحف “مؤسسة سميثسونيان”، و”متحف المتروبوليتان للفنون”، و”متحف الفن الحديث”، و”متحف ويتني للفن الأمريكي”. في عام 2019، افتُتح أكبر وأشمل معرض استعادي للوحات كولسكوت، ولا يزال قائمًا حتى اليوم.

تتميز لوحات روبرت كولسكوت خصوصًا بمنظورها الصادم، والمستفز عادةً، لقضية الأعراق في الولايات المتحدة؛ تلك القضية التي لا يتجاوزها الزمن أبدًا. ظلت علاقة كولسكوت بتلك القضية قوية ومشحونة عاطفيًا على مدار مسيرته المهنية، في حقبة لم ينشط فيها إلا قلة قليلة من الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية في مجال الفن الحديث أو داخل الأكاديميا. في عام 1964، استغل كولسكوت إجازة تفرغه التي تستمر لعام كامل وسافر إلى مصر، في منحة بحثية مقدمة من “المركز الأمريكي للبحوث” في مصر. بعدها بسنتين، رجع إلى مصر لكي يعمل أستاذًا زائرًا للفن في قسم اللغة الإنجليزية والأدب المقارن بالجامعة الأمريكية في القاهرة، حيث كان، على الأرجح، أول عضو هيئة تدريس أمريكي من أصول أفريقية، وحيث دشّن في فبراير عام 1967 “جاليري كوريدور” Corridor Gallery -أول جاليري فني في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وافتتحه بمعرض فني استمر لشهر كامل. قدم المعرض، الذي حمل اسم “أحد عشر فنانًا”، أعمالًا لأحد عشر مصوِّر حداثي مصري مغمور نسبيًّا، سوف يصيرون بعد ذلك من أهم الفنانين في مصر وعلى الصعيد الدولي. أثناء إقامته في القاهرة، التي استمرت سنتين إجمالًا (اختُزلت زيارته الأخيرة بمقدار عام كامل بعد نشوب حرب 1967)، مرّ كولسكوت بتحولات شخصية، صار بموجبها أكثر تمسكًا بهويته “السوداء”- هذا التغير الذي اتضح للمرة الأولى في أعماله التي صارت الآن تسمى “لوحات القاهرة”.

معرض “روبرت كولسكوت: سنوات القاهرة” يعيد، للمرة الأولى، عرض أربع لوحات نموذجية من تلك الفترة الحاسمة من حياته، مصحوبة بوثائق أرشيفية، وصور، وعروض فيديو وثيقة الصلة بتلك الفترة، أضيف إليها في الآونة الأخيرة مقابلات صوتية مع نقاد ومؤرخين فنيين وثقافيين. المعرض يستضيفه “جاليري مارجو فيلون” في “مركز التحرير الثقافي”، ذلك المكان الذي ينسجم على نحو مفارق مع لوحات قاهرة كولسكوت، لا سيما وأن كولسكوت، شأنه شأن الفنانة فيلون التي سُمي الجاليري باسمه، كان داعمًا متحمسًا للفن المصري، وتأثر تأثرًا بالغًا بتجربته في مصر مثلما تأثر به عالم الفن في القاهرة. وقد شدد بنفسه على ذلك في محاضرة ألقاها في “مركز كاربنتر للفنون البصرية” بجامعة هارفرد عام 1998؛ المحاضرة التي من المقرر عرضها في هذا المعرض.

بدأت رحلة كولسكوت الفنية مع التجريد في منتصف القرن العشرين، ثم تحولت إلى التجريد التشخيصي، قبل أن تنتهي بأعمال “بوب آرت” قوية ومشحونة ومثيرة للجدل، تلعب على طرق تصوير الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية في وسائل الإعلام الأمريكية والثقافة الاستهلاكية. كان انتقاله من التجريد إلى التشخيص، الذي شجّعه عليه مرشده الباريسي فيرنان ليجيه، نقطة تحول محورية في مسيرته الفنية -ويمكن تعقُّبها إلى فترة إقامته وعمله بالقاهرة. هناك، حدث نوع من التحول المتجلِّي في أعمال التصوير التي أنجزها كولسكوت، لم يتردد صداه في الأعمال الفنية التالية فقط، بل ترك أثره على تاريخ الفن بأكمله.

لقد بات معروفًا الآن أن الفن التجريدي تحول إلى “غنيمة حرب” للمنتصرين في الحرب العالمية الثانية، ومع شروع الحكومة الأمريكية في الترويج الدؤوب للمذهب التعبيري التجريدي كأداة سياسية من أدوات الحرب الباردة، تراجع الاهتمام العالمي بالفن التشخيصي الذي يُقرَن بالقرن التاسع عشر. أثناء إقامته في القاهرة، بدأ كولسكوت، ونتيجة لهذا التحول في قيمه الجمالية، يُعيد التفكير في مسألة الترسيخ الدولي لمفاهيم عنصرية، أوروبية المركز، عن الفن والثقافة. هكذا، فتح حوارًا مع العديد من الفنانين المحليين الذين أصبح يُشار إليهم الآن بوصفهم فناني الحداثة المصريين، وساعدهم على ترويج أعمالهم. ومن ثم بدأ يُسائل الاتجاهات التاريخية في الإبداع الفني، ويلاحظ فروقًا مهمة بين “الحداثة العليا” القادمة من الغرب، والحركات المهمَّشة -رغم كونها حداثية بلا شك- التي ظهرت على الساحة الفنية خارج القارة الأوروبية. استوعب كولسكوت الفن المصري المعاصر، وكيف تطور تحت ظروف خاصة مكَّنته من الاحتفاظ بوجهات نظر ثقافية لا يسهل ترجمتها إلى سرديات أجنبية. هذا الموقف النقدي -موقف التشكك الصحي الذي شاركه فيه الحداثيون المصريون- قاد كولسكوت، لدى عودته إلى الولايات المتحدة بعدها بعدة أعوام، إلى الشروع في دمج شواغله تلك في أعماله الفنية، ومن ثم أصبح مشهورًا بتسليط الضوء على إشكاليات علاقات العرق والتفاهمات (أو سوء التفاهمات) العنصرية الأمريكية، ودَفْعها إلى الواجهة الثقافية على نحو لم يسبقه فيه أحد.

تنظيم معرض استعادي لـ”لوحات القاهرة” أمرٌ بالغ الأهمية. في اللحظة التاريخية الحالية، يُعد لفت الانتباه إلى اكتشافات كولسكوت وابتكاراته إبّان إقامته في مصر واشتغاله في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بمثابة احتفاء بتاريخ الفن الأمريكي الأفريقي وتراثه، وبالتقدم الذي استطاع تحقيقه بفضل مؤسسة تعليمية أمريكية مهمة خارج أراضي الولايات المتحدة. بالمثل، فإن جدلية الدبلوماسية الثقافية التي مارستها الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة، وروَّجت من خلالها موسيقى “الروك آند رول” و”الجاز”، من بين الابتكارات الأمريكية (الأفريقية) الأخرى المميزة، في عالم يخرج تدريجيًّا من العصر الكولونيالي- تلك الجدلية التي مكَّنَت وجود كولسكوت في القاهرة في المقام الأول- عجزَت عن احتواء الجنِّي الذي أطلقت له العنان: منصة للتعبير عن الطموحات -المحلية والدولية سواءً- تتجاوز تلك الجدلية وتتخطاها، إذ لم يدرك مهندسو “خطة مارشال” ولم يخطِّطوا لترويج رؤى الحرية والتحرر والأساليب المختلفة للتعبير عنها. في هذا السياق، يبرز إسهام الجامعة الأمريكية بالقاهرة في المشهد الفني القاهري الصغير، إنما النابض بالحياة، حين رحبت بكولسكوت بأصوله الأفريقية داخل هيئة تدريسها، ودعمت مساعيه للترويج لحداثة مصرية، لا سيّما في فترة من أحرج فترات تاريخ الجامعة.

*الصور: إهداء من أرشيف الجامعة الأمريكية بالقاهرة، مكتبة الكتب النادرة والمجموعات الخاصة