عندما ينزل الحمقى من فوق التل
هل يستطيع أي شخص أن يكون فنانًا؟
ريتشارد فاينمان، أحد العلماء الذين اخترعوا القنبلة الذرية، كان يتكلم عن العلم عندما قال هذا في ١٩٧٩، غير أن مقولته تنطبق على الفن في ٢٠٢٠ وما بعدها: «ما استطعنا استيعابه عن الطبيعة قد يبدو مجردًا أو خطيرًا لشخص لم يدرسه، لكن الحمقى هم من فعلوا ذلك، وفي الجيل التالي، كل الحمقى سوف يفهمون».

انفجار ذرِّي
في يومنا هذا، أصبح الفن يُصنع بسرعة ومعدل غير مسبوقين. فسواء كان موسيقى، أو سينما، أو فن تشكيلي، أو فوتوغرافيا، سواء كان فنًّا مفهوميًّا أم تشخيصيًّا، أم تقليديًّا أم طليعيًّا، فإن انتشار وإتاحة أدوات إنتاج الفن، وطرق ووسائل نشره وإذاعته على الجمهور، تجري بسرعة ذريّة، بل كمّي (نسبة إلى فيزياء الكمّ).
وإنني أستخدم هاتين الكلمتين -ذرِّي وكمّي- ها هنا في محاولة لتوضيح مقصدي: أننا نتقدم إلى الأمام وإلى الخلف في الوقت نفسه، عندما يتعلق الأمر بالفن.

رسم كهف مبكر
ذرّية، لأننا بصدد انفجار. جرِّب أن تقضي ساعة من وقتك على «إنستجرام»، وسوف تكتشف أن الفنانين الذين وُلدوا في خلال تلك الدقائق الستين ربما يزيدون عددًا عن الفنانين الذين ظهروا منذ بداية العالم. كمّية، لأن ذلك ما كانت عليه الحال، على أغلب الظن، قبل أن تترسخ المنظومات، في غابر الزمان، قبل العصر الذي نسميه حضارة، وقبل أن يشيّد المتحضرون- القدماء والمحدثون على حد سواء- قواعد تنظيمية تهدف إلى التحكم في حياتنا كبشر وتطويرها. قواعد تعمل لحساب السلطة والمال- و«العاديّة» قبل كل شيء.
هل تظنون أن الإنسان حين أبدع عملًا فنيًّا لأول مرة، تقدَّم وسيطٌ ما على الفور لتعريف هذا العمل، أو تمجيده، أو محاولة بيعه؟ أم أن الإنسان أبدع عملًا فنيًّا ليكون إنسانًا؟
في يومنا هذا، أصبح الفن يُصنع بسرعة ومعدل غير مسبوقين. فسواء كان موسيقى، أو سينما، أو فن تشكيلي، أو فوتوغرافيا، سواء كان فنًّا مفهوميًّا أم تشخيصيًّا، أم تقليديًّا أم طليعيًّا، فإن انتشار وإتاحة أدوات إنتاج الفن، وطرق ووسائل نشره وإذاعته على الجمهور، تجري بسرعة ذريّة، بل كمّي (نسبة إلى فيزياء الكمّ).
الإنسان اليوم يستخدم «إنستجرام». ثمة صفحة هناك تسمى «نيتش» (_nitch) تقدم نصائح من فنانين معروفين (بمعنى: راسخين) عن العملية الإبداعية. الآن، في التو واللحظة، التقطتُ «سكرين شوت» لصورة فنانة موسيقية شهيرة اسمها باتي سميث تقول، «الخيال والقدرة على التحويل هما ما يجعلان الشخص فنانًا». هذه القدرة هي نفسها التي ظلت تتطور منذ «قفزة الإنسان العظيمة إلى الأمام» قبل ملايين السنين. هل يجعل ذلك الجميع فنانين؟ بالطبع لا. هل ينبغي أن يجعل الجميع فنانين؟ بالطبع نعم، إذ أن ذلك جزء لا يتجزأ من كون الإنسان إنسانًا.

لقطة من حساب «كرينجات» على إنستغرام
الآن، بعد أن صار الجميع يستطيعون، دون أن يُجبَروا على الخضوع «للعادي»، فإن العالم الذي سوف نراه في خلال العقود القليلة التالية لن يمكننا التعرف عليه. سوف يصبح عالمًا مليئًا بالفن، عالم يتحقق فيه الحلم بأن يصير كل إنسان فنانًا. وسواء أحببنا ذلك أم كرهناه، فإننا بصدد تحوُّل أعظم من أي تحوُّل سبقت لنا رؤيته من قبل.
هل نحن مستعدون؟ هل نعرف ماذا سوف نفعل بكل تلك السيناريوهات غير المنشورة، كل تلك اللوحات غير المعلقة، كل تلك الأفكار المخمورة، المسطولة، المجنونة -أو ربما العاقلة الرزينة- التي تتدفق على العالم الرقمي، وتُحفظ للأجيال القادمة ولكل العصور؟ بعضها سوف يحظى بحفنة من «اللايكات»، والآخر سوف ينال الملايين منها. وقد نكتشف أن ثمة مواهب، مدفونة، هناك، لم تسنح لها فرصة الظهور من قبل.
قد تجد نفسك ترجع إلى الوراء مصدومًا، وتقول «إيه ده؟!!».
لكن إذا كانت ممارسة الفن هي ما يجعلنا بشرًا، فإن تقدير الفن ونقده هو المعيار الذي سوف يتطلب أكبر قدر من «التظبيط» في الأيام القادمة. كالعادة، تحاول «المؤسسة» بأقصى قوتها التمسك بالمنظومات التي أُنشئت لكي تقرر الفن الذي يستحق الإطراء، وذلك الذي لا يستحقه. أحيانًا يقوم المنهج نفسه على محاولة تعلية أسوار القلعة أكثر، تعميق الخنادق المحيطة بها، إخفاء الفن في أماكن لا يستطيع الوصول إليها إلا نخبة النخبة.

لقطة من حساب «كرينجات» على إنستغرام
لكن حتى هناك، لا يزال «إنستجرام» موجودًا. وهكذا، نجد مناهج أخرى تتضمن أنواعًا أخرى من التنسيق الفني، من الطبقية الفنية، محاولات جعل الفن الهابط فنًّا راقيًا، ولكن بطريقة ساخرة.
من هنا جاءت «كرينجات» Cringaat، صفحة أخرى -مثل «نيتش–» أصبحتُ مهووسًا بها على «إنستجرام». تقدم الصفحة نخبة من أكثر العروض جموحًا وعاديّة، ينتجها أشخاص يزعمون -أو لا يزعمون- أنهم فنانين، لكنهم جميعًا يمارسون ما أوصت به باتي سميث في وصفتها –«خيال وقدرة على التحويل»–– ويعرضون أعمالهم على جمهور يزداد حجمًا يومًا بعد يوم. لأنهم الآن أصبحوا «يستطيعون». لأنه ليس مجرد شيء يفعلونه في غرفهم المغلقة، أو في صحبة أقاربهم أو أصدقائهم الدافئة. انظر إلى شهاب! كم هو موهوب؟ انظر إلى فاتن! كم هي موهوبة؟ أحيانًا يكون شهاب -أو فاتن- موهوبًا بالفعل، لكن في معظم الأحيان يقابل الجميع أعمالهم بتنهيدة ملل. ما الفكرة من ذلك؟ ابني الصغير يستطيع أن يفعل ذلك. وربما أستطيع أنا أن أفعل ذلك أيضًا. (تذكر أن هذا ما قالوه أيضًا عندما شاهدوا أعمال فناني الحداثة العظماء في القرن العشرين).

لقطة من حساب «كرينجات» على إنستغرام
مع «كرينجات»، يجب أن تشاهد بعينيك لكي تصدق: سوف تندهش من كم الفنانين الواعدين هناك، ليس فقط في الضواحي الراقية أو في المراكز النابضة في قلب المدينة، بل في كل مكان حرفيًّا. لكن ما الذي نشاهده هنا فعليًّا؟ هل هي طريقة لكي يسخر الناس الأكثر ثقافة من الناس البسطاء؟ هل هو مزيد من الطبقية المعتادة، ليس أكثر؟ أم أن الأمر يتجاوز ذلك، على نحو «ذري» و«كمّي» في الوقت نفسه؟
هل يُظهر فقط أن الجميع، من دون أدنى شك، يمكن أن يصيروا فنانين -أو نقّادًا للفن- هذه الأيام؟ لعل أبرز ما تقوله هذه اللحظة -أكثر من أي وقت مضى- هو أن الفن للجميع، ويمكن أن يأتي من أي مكان. في الوقت نفسه، نجد الجميع من شتى الأطياف -من الحرس القديم الرافض، الذي يحاول بذل أقصى جهده من أجل الحفاظ على «المؤسسة» أو على «هيراركية» الفن، إلى السابحين مع التيار- يستخدمون كل تلك الطرق والوسائل الجديدة من أجل وضع رغبتهم في التعبير داخل أشكال قابلة للعرض -باحثين عن أكبر عدد من «المتابعين» و«اللايكات».
«العباقرة» أصبحوا في كل مكان. هل تنتظر جون لينون جديدًا؟ لا تنتظره. إذا ظهر سيختفي بعد لحظة مع حركة إصبعك على «إنستجرام». ركِّز وستجدهم: جون لينون، وبيتهوفن، وأم كلثوم، في كل مكان حولك، طوال الوقت، من الآن فصاعدًا.