Issues
//
Culture

الثقافة في زمن كورونا

كيف مثَّل فيروس كوفيد 19 تحديًّا وإلهامًا لقطاع الثقافة المصري

بقلم ياسمين نظمي
ترجمة إيهاب عبد الحميد
ربما كان قطاع الفن والثقافة المستقل واحدًا من أكثر القطاعات تأثرًا بالحظر الذي فرض بسبب فيروس كورونا. فمن من اللاعبين استطاع تحدي العاصفة؟ وكيف صمدوا؟ والأهم، هل ستغير هذه الجائحة من شكل الثقافة على المدى البعيد؟

بالنسبة لمشهد الثقافة المستقل في مصر، الذي يمتلك موارد شحيحة وجمهور محدود في الظروف العادية، مثَّل الإغلاق إلى أجل غير مسمى اختبارًا للقدرة على التحمل. ومع استمرار الجائحة، تحول أيضًا إلى اختبار لحسن التدبير وسرعة التصرف.

في ٧ من مارس عام ٢٠٢٠، خرجتُ مع ابنتي ذات الثلاث سنوات لنستمتع بـ«يوم ثقافي» في «مركز التحرير الثقافي»، حيث نشاهد ثلاثة عروض في النسخة العاشرة من «مهرجان حكاوي الدولي لفنون الطفل». في الحقيقة، كانت أول مرة تدخل فيها زينة مسرحًا، وانبهرت بالعروض، لكنها انبهرت أيضًا لأنها كانت أول تجربة تشاهد فيها مسرحًا حيًّا، وتجلس فيها وسط جمهور. عندما طلبت منها ألا تتكلم أثناء العروض، لاحظَت بهدوء صمت الآخرين وقلَّدَتهم، ما جعلني أتساءل إن كانت ذهنية القطيع سيئة على طول الخط.

لم أعرف أنها ستكون آخر تجربة «طبيعية» لنا، وأن الشهور التالية سوف تغيّر طريقة تلقينا للعروض الحية ومشاركتنا في الفضاءات العامة. كانت الهمهمات حول فيروس كورونا التي بدأت خافتة في مصر قد ازدادت صخبًا في الأسابيع السابقة على يوم خروجنا، لكن الحياة العامة لم تكن قد تأثرت بعد. في ذلك الوقت، سألت نفسي إن كانت المجازفة تستحق، وقررت أن أذهب بأية حال. لكن حتى عندها أثارت مخاوفي فكرة مشاركة مساحة مغلقة مع مجموعة من الأطفال أثناء زيارة «البلانيتريوم» -هيكل عملاق يشبه الخيمة نُصب في منطقة النافورة في الحرم الرئيسي- ووجدتني أتلمس طريقي للخروج من الحيز المعتم. آخر عرض حضرناه -العرض الأول على مستوى العالم لمسرحية «شعرية الفوضى» La Poetique De L’Instable- الذي قُدم على مسرح قاعة «إيوارت» وسط جمهور يجلس في نصف دائرة على الخشبة حول العارضين، حيث تجتمع كل الروائح والحرارة المنبعثة من أجسادهم معًا- جعلني أنتبه إلى أن العنصر الذي طالما أبهجني في مشاركة الخبرات الثقافية مع غرباء هو نفسه الذي جعلني أشعر الآن بعدم الارتياح.

بعد أقل من عشرة أيام، أعلنت الحكومة المصرية حظرًا لمكافحة انتشار كورونا، وأغلقت الأماكن الثقافية في شتى أرجاء البلاد أبوابها إلى أجل غير مسمى، وبدون أن يعرف أحد متى ستفتح من جديد. لم يكن لدى المدراء الثقافيين، شأنهم شأن الجميع، فكرة إلى متى ستبقيهم الجائحة في بيوتهم، وما نوع الخسائر التي ستتسبب فيها، وبعدها ببضعة أشهر، أُجبر بعضهم على تقليص الرواتب أو الإغلاق الكامل. بحلول شهر أغسطس، كان البعض قد تمكن من إعادة فتح أبوابه، مغامرًا بالسباحة في بحار مجهولة، في ظل إجراءات احترازية لا تنتهي، مثقلين بالمسؤولية التي سوف يتحملونها مع إعادة الفتح.

كانت الاستجابة بين الفنانين، والموسيقيين، والمؤديين متنوعة بتنوع الفضاءات الثقافية: بالنسبة للبعض، وفَّر الإغلاق فرصة مناسبة للتخطيط، أو الرسم، أو الكتابة، أو التأليف الموسيقي، وإنهاء المشروعات غير المكتملة. بينما اضطر آخرون إلى الاشتغال بوظائف أخرى لتدبير معيشتهم. البعض باع أدواته الموسيقية بمقابل زهيد لكي ينفق على أسرته. الموسيقيون الذين اعتمدوا في الماضي على الحفلات الموسيقية والأفراح لكسب العيش وجدوا أنفسهم يعتمدون حصرًا على حقوق الأداء العلني، ما أجبرهم على إعادة الحسابات في ما يخص مصادر دخلهم الرئيسية.

وفي حين ظهرت حفنة من المبادرات عبر الإنترنت وفّرت لمجموعة منتقاة من الفنانين فرصة الأداء، ظلت الغالبية العظمى بلا عمل. وسواء على الصعيد العالمي أو المحلي، كان العاملون غير المعيَّنين (فريلانس) هم الأكثر تأثرًا، من الممثلين، إلى الموسيقيين، والمؤدين، والفنيين وغيرهم من أفراد الطاقم المعاون، والكثير منهم لا يمتلك شبكة أمان يستند إليها.

اختبار للقدرة على التحمل

بالنسبة لمشهد الثقافة المستقل في مصر، الذي يمتلك موارد شحيحة وجمهور محدود في الظروف العادية، مثَّل الإغلاق إلى أجل غير مسمى اختبارًا للقدرة على التحمل. ومع استمرار الجائحة، تحول أيضًا إلى اختبار لحسن التدبير وسرعة التصرف. بعض المساحات الثقافية حافظت على صلتها بجمهورها عن طريق مشاركة مواد أرشيفية على وسائل الإعلام الاجتماعي أو إطلاق منتجات ومنصات جديدة على شبكة الإنترنت؛ البعض الآخر لجأ إلى خيارات محافظة لتقليص النفقات غير الضرورية من أجل الصمود في الحظر الذي امتد لأربعة أشهر؛ بينما اختارت فئة ثالثة القرار الصعب -لكن الحتمي- بإيقاف أنشطتها والإغلاق الكامل.

صناديق الإغاثة الضرورية للمؤسسات الثقافية كانت نادرة، ولم تترك، في نهاية المطاف، إلا أثرًا محدودًا على صناعة تعتمد بالكامل تقريبًا على العمل غير الرسمي، وبدون عقود، الذي شهد تراجعًا حتى من قبل الأزمة بسبب قلة الموارد. في يونيو، تعاون عملاق البث الموسيقي «سبوتيفاي» مع «الصندوق العربي للفنون والثقافة» (آفاق) لإطلاق مشروع «إغاثة الموسيقى في ظل كوفيد-19» في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في محاولة لدعم الموسيقيين الذين تأثروا بالجائحة. كذلك قام «منتدى فنّ جَميل للأبحاث والممارسات الفنية»، و«المورد الثقافي»، علاوة على «المؤسسة الثقافية السويسرية- بروهلفتسيا» بمبادرات شبيهة. مع ذلك، قام معظم المانحين، في الأيام الأولى للجائحة، بتجميد التمويلات الجديدة إلى نهاية العام، وواصلوا فقط تمويل الأنشطة التي سبق اعتمادها قبل الوباء. ترك هذا عددًا لا يحصى من الفنانين والعاملين في المجال الثقافي في العراء.

كاثي كوستين، رئيسة برنامج الفنون بالمجلس الثقافي البريطاني، تعتقد أن المانحين قد يخصصون المزيد من الإنفاق للعالم الرقمي في السنوات القادمة. وتلفت إلى أن النذر اليسير من التمويلات الذي يذهب إلى الفنون الأدائية في مصر يعني أن نمو القطاع قد تقزّم بالفعل، في كثير من المناحي. تقول، «هذا هو الجانب السيء في حجم المشهد [الثقافي] هنا. المشهد صغير للغاية مقارنة بدولة بحجم مصر». ولأن الدعم المالي المخصص للفنون الأدائية في مصر لا يقارن بنظيره في بلدان مثل المملكة المتحدة، فقد ضخمت الجائحة من المخاطر التي كان القطاع يواجهها بالفعل.

معركة على جبهتين

لقطة لإليسا تغني من بيتها أثناء الحظر.

حفلة موسيقية لهاني شاكر أقيمت في قصر عابدين بدون جمهور.

بالنسبة للموسيقيين، تسبب الحظر في إلغاء الحفلات، والجولات الموسيقية، والأفراح أو تأجيلها إلى أجل غير مسمى. في مسعى لـ«التحول إلى العالم الرقمي»، قامت شركة «وي» للاتصالات، بين مايو ويوليو الماضيين، ببث سلسلة من الحفلات الموسيقية التي صُوِّرت في مناطق متنوعة في أرجاء القاهرة، شارك فيها فنانون مستقلون مثل «مسار إجباري» ودينا الوديدي، وفناني «التِراب» ويجز ومروان موسى، ونجوم مثل محمد منير، وغيرهم. غنّت أمل ماهر في حفلات تذاع على الهواء مباشرة، بينما استغل فنانون آخرون، مثل هاني شاكر، الزخم الذي خلقته شبكة البث «شاهد VIP» أثناء الحظر وأقام حفلات موسيقية أونلاين. غير أن هذه الجهود الجزئية لتحويل الحفلات باتجاه «الأونلاين» استهدفت بالأساس فنانين مشاهير وراسخين، تاركة الوافدين الجدد مرة أخرى ليذودوا عن أنفسهم.

في يونيو ٢٠٢٠ قام مركز التحرير الثقافي بعرض حفل دون جمهور لفريق مسار إجباري بمسرح القاعة الأثرية ايوارت كجزء من حفلات شركة «وي» للاتصالات.

محمود رفعت، مؤسس «١٠٠ نسخة» -إحدى المؤسسات القليلة المعنية بموسيقى «الأندرجراوند» في مصر- يشك في احتمالية عودة الأمور إلى طبيعتها في وقت قريب، مشبهًا تأثير الوباء بتفجيرات ١١ سبتمبر. يتنبأ رفعت أننا سوف نستغرق عامين على الأقل قبل أن ترجع الحفلات بكامل قوتها، لكن من غير المعروف إن كان الفنانون والمنتجون سوف يصمدون إلى نهاية عام ٢٠٢٢. رفعت، الذي يعمل مع أكثر من ١٠٠ موسيقي، منهم فنانو مهرجانات مثل حمّو بيكا، والسادات، وإسلام شيبسي، يقول إن الروح المعنوية قد تأثرت وسوف تستمر في التأثر بالجائحة، التي مثَّلت أكبر ضربة لقطاع الثقافة المستقل في مصر. ويشرح أن مشهد موسيقى «الأندرجراوند» والموسيقى المستقلة قطع خطوات مهمة في أوائل الألفية الجديدة، ونجحت في ترسيخ مساحات للثقافة المستقلة، وتطوير أذواق مختلفة وجماهير مختلفة، وإزاحة الثقافة بعيدًا عن المنحى التقليدي، والنبرة المتعالية في كثير من الأحيان. ويخشى رفعت أن تعكس الأزمة الحالية هذا المسار. يقول، «في التسعينيات، كانت الثقافة والفن والذوق العام خاضعة جميعها لسيطرة مؤسسات وشركات كبيرة، والخطر أن نرجع إلى ذلك مع استمرار هذه الأزمة».

في نهاية مارس، اتخذت «١٠٠ نسخة»، بوصفها شركة تسجيلات صغيرة تعمل مع موسيقيين يعتمدون إلى حد كبير على الحفلات والأفراح، قرارًا بتوجيه المزيد من الدعم إلى إنتاج المزيد من الموسيقى. بحلول أغسطس كانوا قد ضاعفوا بالفعل إنتاجهم ثلاث مرات في هذا العام. يقول رفعت، «كان قرارًا شخصيًّا من جانبي أن أقف بجانب الفنانين الذين يعملون معي».

موجة الاهتمام بموسيقى المهرجانات، التي يعتبرها الكثيرون فنًّا هابطًا، ساعدت «١٠٠ نسخة» على البقاء شابة وخفيفة الحركة ومرتبطة بالشارع، ولعل استجابتهم للأزمة تعكس ذلك. يوضح رفعت أنه لا يبحث عن مساعدات أو إعانات لإغاثة الفنانين؛ بل يعمل، حتى الآن، من أجل إيجاد مكان لشركته في السوق، حيث تضاعف تحدي محاولة الصمود أثناء الأزمة بينما يواصل العمالقة على الصعيد العالمي والإقليمي توجيه أنظارهم إلى الإمكانيات غير المطروقة في سوق شمال إفريقيا.

غير أن هذا لم يمنع «١٠٠ نسخة» من التعاون مع عمالقة عالميين مثل «سبوتيفاي» و«سوني»، وكذلك منصة «أنغامي» الموسيقية الإقليمية، سعيًا لتوسيع قاعدته الجماهيرية، وتحسين وضعه على منصات البث، وتجاوز الاستحواذ على السوق. يوضح رفعت أن التوجه إلى العالم الرقمي مسألة محورية من أجل البقاء في الملعب، وأن الطريقة الوحيدة لضمان صمود شركته عبر الأزمة هي إقامة تحالفات مع خبراء يستطيعون تسويق أعمالها وفنانيها. يقول، «ليس لدى الجمهور طريقة لاستهلاك الموسيقى إلا من خلال المنصات الرقمية. هذا هو الوضع الآن، وهكذا قد يكون في المستقب».    

«وقفة طويلة»

في أعقاب الحظر مباشرة، أنشأت وزارة الثقافة منصات للفنانين من أجل عرض أعمالهم «أونلاين» من خلال مبادرات مثل «الثقافة بين يديك»، التي أُطلقت على «يوتيوب» في مارس. في يونيو، ذكرت الوزارة أنها استقبلت 25 مليون زائر من 28 دولة في شهرين فقط. وقالت إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة، لصحيفة «الأهرام أون لاين» إن الوزارة استخدمت المنصة لإنتاج أعمال مدفوعة الأجر من أجل دعم الفنانين المصريين خلال الأزمة. كذلك تعاونت مع وزارة الاتصالات لبث عروض على التلفزيون في سياق مبادرة لتشجيع الناس على البقاء في البيوت. بحلول منتصف يونيو، افتَتحت ثلاثة مسارح في الهواء الطلق داخل دار الأوبرا بالقاهرة للترويج للثقافة مع الالتزام بالتباعد الاجتماعي.

ساقية الصاوي وضعت قصاصات من الورق المقوى تمثل كبار نجوم الشاشة الفضية بين المقاعد لتطبيق التباعد الاجتماعي. الصورة: إهداء من ساقية الصاوي.

بالنسبة لبعض المراكز الثقافية المستقلة، فتحت الجائحة العيون، وكشفت الضعف المتأصل في القطاع، ودفعتهم إلى العثور على طرق جديدة لممارسة الأعمال. ساقية الصاوي، التي استغلت منصاتها على شبكة الإنترنت للاحتفاظ بجماهيرها، وفّرت ورش عمل مجانية «أونلاين»، كانت تقام من قبل داخل «الساقية»، وهو ما فعلته الكثير من المراكز أثناء الحظر. عندما عادت «الساقية» لفتح أبوابها في يوليو، استثمرت المسارح المفتوحة، والتزمت بالتباعد الاجتماعي في الأماكن المغلقة عن طريق وضع قصاصات من الورق المقوى تمثل كبار نجوم الشاشة الفضية بين المقاعد. تشرح حنان عمر، المنسقة الإعلامية في «ساقية الصاوي»، أنه، بالرغم من أن أعداد الجمهور كانت لا تزال قليلة نسبيًّا في يوليو، فقد كانت هناك شهية كبيرة للثقافة بين رواد المكان.

تقول، «الناس كانوا سعداء جدًّا لأننا فتحنا. كانوا يريدون رؤية شيء بخلاف التلفزيون و’نتفليكس’، يريدون أن يشعروا أن الأمور عادت إلى طبيعتها. كذلك كان العارضون متحمسين للعودة، حتى أن بعض الموسيقيين صاروا يقدمون حفلتين في اليوم للسماح للجمهور بالحضور مع الالتزام بمعدل الإشغال المقرر عند 25%. بالنسبة لها، كان الدرس الأهم هو ضرورة تعزيز وجود المكان على الإنترنت، وهو ما عمل عليه فريق «الساقية» بجدّ أثناء فترة انقطاع الفعاليات.

طارق عطية، مدير «مركز التحرير الثقافي»، أعاد مؤخرًا إصلاح وصيانة حرم الجامعة الأمريكية في القاهرة بوسط البلد (مركز التحرير الثقافي هو أيضًا ناشر «جكرنده»)، وهي الخطوة التي تأجلت حيث كان من المقرر إقامة مئة فاعلية في الربع الثاني من 2020. يقول عطية، الذي يدير مؤسسة شابة تتمتع بميراث ثقافي قوي، إنهم كانوا قد بدأوا للتو في اكتساب الزخم حين اضطرتهم الجائحة إلى أخذ «وقفة طويلة». كان ثمة تخوف من أن يدشِّن المركز فعاليات ومنتجات «تضيع وسط تسونامي الفعاليات على شبكة الإنترنت«، أو تعجز عن التعبير عن هوية المركز للجمهور على نحو مناسب.

وفقًا لعطية، تطلَّب استئناف الفعاليات تغييرًا في العقلية؛ هكذا، ركزوا على فعاليات صغيرة وعروض في الهواء الطلق قبل أن يتوسعوا ويستضيفوا «مهرجان القاهرة للجاز» في نوفمبر. في ذلك الوقت، كان التباعد الاجتماعي، والتعقيم، وارتداء الكمامات قد أصبح عادةً في كل التجمعات العامة.

أما «درب ١٧١٨»، القائم في الفسطاط بمصر القديمة -والذي عمل على خلق مساحة مشهودة لفناني «الأندرجراوند» المعاصرين من أجل عرض أعمالهم وتكوين جمهور قادر على استقبال قيمة فنية مختلفة على مدار الأعوام الثلاثة عشر الماضية- فتوجّه بدوره إلى الفضاء السيبراني في أعقاب الحظر، ولجأ إلى تنظيم محاضرات ومناقشات مع الموسيقيين، والفنانين، والكتاب، والمنسِّقين الفنيين الدوليين. كما شجع الفنانين على استغلال منصة «إنستجرام» باستخدام هاشتاج «الفن_مش_ملغي» #Artisnotcancelled، للتأكيد على كون الفنانين قد استمروا في العمل على مشروعاتهم الخاصة، بالرغم من إغلاق المساحات الثقافية، موفرين لهم فضاء لمشاركة أعمالهم والتفاعل مع جمهورهم.

مع بداية يوليو، عندما فتح «درب» أبوابه للترحيب بالزوار في ورش عمل للمرة الأولى منذ نحو أربعة أشهر، «كان هناك عطش للف»، بحد تعبير معتز نصر، الفنان البصري ومؤسس «درب ١٧١٨». ويوضح نصر كيف شجعهم الحظر على تقديم فعاليات جديدة «أونلاين»، واستغلال المساحات المفتوحة التي ساعدهم الحظ بامتلاكها على نحو أفضل، بينما كانوا يعيدون فتح أبوابهم تدريجيًّا.

يعتقد نصر، مثل آخرين في المجال، أن الأزمة الحالية ضخّمت من نقاط الضعف التي كانت موجودة بالفعل، ويلفت إلى أن أكبر تحديين يواجهان التقدم في القطاع الثقافي هما الإدارة والتمويل، ولعل تلك التجربة تكون فرصة للتعلم لكل العاملين في قطاع الثقافة المستقل. يقول نصر، «أتمنى أن نتعلم من هذه التجربة أننا بحاجة إلى المزيد من التعاون في ما بيننا. أننا نستطيع العمل معًا من أجل تطوير القطاع المحلي وتقويته، وأنه لا فائدة من العمل بمفردك في هذا القطاع في مصر. الثقافة والفنون أشياء في غاية الأهمية لنا جميعًا، ويجب أن تستمر في الوجود وأن تظل بلا قيود».

  السحر والمسرح: الوصول إلى جمهور وراء الأبواب المغلقة

وبينما وجدت الفنون البصرية حلولًا تقنية مثل «إنستجرام» تساعدها على البقاء صامدة، وبينما راح الموسيقيون يستغلون المنصات الرقمية لتحقيق إيرادات، لم تجد فنون أدائية أخرى بدائل كثيرة أثناء الحظر. حتى مع عودة الفعاليات، تظل التحديات قائمة أمام الفنون الأدائية. فمع إحجام الجمهور عن الدخول في مجازفات غير ضرورية، صار على الأماكن الثقافية أن تدير إجراءات لا نهاية لها من أجل الحفاظ على حميمية التجربة الثقافية الجمعية والالتزام، في الوقت نفسه، بالتباعد الاجتماعي -ناهيك عن تحقيق دخل مادي.

مشروعات مثل «خلف الأبواب» لـ«مركز مدرار الثقافي»، دعا الفنانين لاستخدام أدوات رقمية من أجل تسجيل العروض الأدائية وبثها للجمهور، بما في ذلك الأغاني الفلكلورية، والرقص، والمحاضرات الأدائية، والفنون الرقمية. ويشرح محمد علام، المؤسس المشارك ومدير «مدرار»، كيف يواصلون استكشاف طرق للعمل في العالم الرقمي، ليس فقط بسبب الأزمة الحالية، ولكن أيضًا بسبب انشغالهم بتطوير أعمال وفنون «إلكترونية رقمية» تستغل التكنولوجيا الجديدة.

في يونيو ٢٠٢٠ ، صمم محمد علام ما أسماه “تجربة المشاركة الاجتماعية” في حي المنيرة ، والتي تضمنت عرض مشاريع حفلات لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وعبد الباسط عبد الصمد. الصورة: إهداء من مدرار.

أحد الأساليب غير الاعتيادية كانت محاولة عفت يحيى، مؤسِّسة «فرقة القافلة المسرحية»، التي عَرضت في أبريل مسرحية ذات بطلين بعنوان «رئات» Lungs، للكاتب والمخرج البريطاني دنكان ماكميلان، عبر الهاتف. على مدار أسبوع، اتَّصَلت بعشرة من الجمهور كل مساء في تمام الثامنة وقامت بأداء المسرحية على نحو حي. ورغم أن ذلك كان التفافًا حول الأزمة، تتطلع عفت إلى إنتاج المزيد من المشروعات الصوتية في المستقبل. مع ذلك، فهي على يقين أن لا شيء يمكنه مضاهاة خبرة العرض المسرحي الحي، و«العلاقة السحرية بين الجمهور والمؤدين».

أحمد العطار، مؤسس ومدير «مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة« (دي-كاف) و«شركة المشرق للإنتاج»، يشرح كيف استغل فريقه الحظر من أجل تجديد المقرات، لا سيما مسرح «روابط» الذي استحوذوا عليه مؤخرًا، و«مكتبي«، مساحة العمل الإبداعي المشتركة، و«ستوديو عماد الدين» للبروفات. في مارس أعلن فريق «دي-كاف« إطلاق المهرجان، لكنهم وجدو أنفسهم، في اليوم التالي مباشرة، مضطرين للتأجيل إلى أجل غير مسمى. وفي يونيو، أطلقت «شركة المشرق للإنتاج» مهرجان «موجات» للدراما الصوتية« على شبكة الإنترنت، بعد أن كان مقررًا انطلاقه في أبريل كسلسلة من التفاعلات مع الجمهور وجهًا لوجه. كانت خطة البرنامج حشد جمهور من أجل الاستماع إلى مقطوعات درامية صوتية ثم مشاركة أفكارهم في مناقشات؛ عوضًا عن ذلك، شارك الفريق المحتوى الذي أنتجه للمهرجان مع جماهير عبر وسائل الإعلام الاجتماعي وعلى «ساوند كلاود». تشرح هبة رفعت، مديرة المهرجان، أن الفريق تحول سريعًا لإطلاق المهرجان «أونلاين»، لكن لأن شبكة الإنترنت كانت تفيض بالمحتوى، واجهوا صعوبة في لفت الأنظار على نحو كبير. بالرغم من ذلك، اجتذب المشروع قدرًا من الزخم جعل رفعت متفائلة بأن تصل نسخة العام القادم إلى جمهور أوسع. تقول، «كنا نجرب. لم تكن لدينا خبرة في تنظيم مهرجان ‘أونلاين’، لذلك تعلمنا الكثير من الدروس».

وبينما زادت «شركة المشرق للإنتاج» من استثمارها في منصاتها على شبكة الإنترنت -وسوف تستمر في ذلك حتى بعد انقضاء أزمة كورونا- يؤكد العطار أن الوسائط «الأونلاين» لن تحل محل خبرة المسرح الحي أو السينما، وأن شركات الإنتاج المسرحي مثل «المشرق» (التي أعادت فتح أبوابها للجمهور في أكتوبر) لا تستطيع نسيان سبب وجودها الأصلي. يقول، «نحن حيوانات اجتماعية، لا نستطيع أن نعيش بالكمامات وعلى الشاشات. نستطيع أن نفعل ذلك بصورة مؤقتة، لكن التفكير في أن حياتنا كلها ستصير كذلك يبدو أمرًا غير معقول. العالم شهد الطاعون، والكوليرا، والإنفلونزا الإسبانية، وكل ذلك لم يغير المبدأ الأساسي: أننا نحتاج لأن نكون معًا، نحتاج إلى الأحضان، ونحتاج إلى تناول العشاء معًا، ونحتاج إلى عيش تجارب مشتركة».

بعد سبعة شهور من تجربتها المسرحية الأولى، اصطحبتُ ابنتي إلى عرض آخر من عروض «حكاوي»: عرض «نوسة وظريف: من أغراب لأعزّ أصحاب»، في «ستوديو ناصبيان» في مقر جمعية «الجزويت» بوسط القاهرة. في ذلك الوقت كنت قد اعتدت على تحجيم عواطفي في المجال العام وفي التواصل الشخصي. لا مزيد من مدّ الأيدي للغرباء؛ العناق والقبلات مقصورة على الأسرة؛ الأماكن العامة غير المفتوحة لا تُختبر إلا من وراء زجاج مشبَّر وبصحبة صوت الأنفاس المجهدة في الكمامات. فور وصول محمد الغاوي، مؤسس مهرجان «حكاوي»، رشّ مطهرًا على يديه واطمأن إلى أننا جميعًا نضع الكمامات. في المسرح، وُضع كرسيان أو ثلاثة بين كل متفرج وآخر. اتخذنا مقاعدنا على بساط على الأرض في المقدمة، يفصل بيننا وبين جيراننا متران، ورحنا نشاهد العرض الراقص الصامت يتبدى أمامنا وفي الخلفية تتلاعب آلة العرض بالصور على شاشة بيضاء. وبرغم الحواجز المنصوبة بسبب احترازات كورونا -أو ربما بسببها- بدت تجربة مشاهدة عرض حي برفقة جمهور تجربة لا تنسى.