راقصة راحلة تزور معرض فن تشكيلي
في تمرد على “نظام الدخول” من بوابات المتاحف والمراكز الثقافية، تختار ياسمين الضرغامي اسم الراقصة “بمبه كشّر”، لتوقّع به على ورقة تسجيل دخول متحف الفن الحديث فور إعادة افتتاحه في نوفمبر 2020 بعد إغلاق دام عشر سنوات كاملة. في بلد تحتل فيه الفنون والثقافة مكانًا أصيلًا في قلوب الناس، ظل قطاع الفنون التشكيلية في مصر يعاني أمرّ المعاناة على مدار العقد الماضي؛ ومع بدء الإغلاق الذي تسببت فيه جائحة كوفيد19 في جميع أرجاء العالم، وصل المشهد الثقافي في مصر إلى حالة تقترب من الجمود الكامل في مارس 2020. بعض الفنانين استغلوا هذا الوقت للعودة إلى أفكار ومشاريع سابقة -للإبطاء قليلًا من إيقاع العمل المحموم. لكن سرعان ما صار واضحًا أن الإغلاق سوف يستمر، وأن مبيعات جاليريهات الفنون عبر الإنترنت قد ارتفعت عاليًا مع اتجاه الناس إلى التسوق الـ”أونلاين”.
بصرف النظر عن الوباء، فالبيئة الفنية في مصر ليست بيئة صحية. إذ يجد الفنانون أعمالهم محاصرة بين التسليع، من أجل تحقيق نجاح في سوق الفن، والرقابة الذاتية الضرورية، من أجل تجنب المشكلات مع المؤسسات الخاضعة لحراسة مشددة من الحكومة. هكذا، لا يجد الفنانون وسيلة لكسب العيش إلا بالانسياق مع الماكينة البيروقراطية، أو بالخضوع لأذواق «المجتمع الراقي» التي غالباً يُمليها مهندسو الديكور. وفي كلتا الحالتين، يضطرون إلى إنتاج فن لا يجرح مشاعر أحد، ولا يستفز أحدًا، ويظل في المنطقة الآمنة.!
راقصة راحلة تزور معرض فن تشكيلي
«البطاقة؟»، هكذا سألني الحارس الجالس بجانب البوابة بين فَردَي أمن بالزي الرسمي. «اكتبي بياناتك هنا في دفتر التسجيل». أنا الآن، مثلما لا بدّ وقد فهمتم، على بوابة هيئة حكومية، لكنني لا أحاول أن ختم ورقة أو تجديد رخصة قيادة، أنا هناك لحضور معرض فني. أفعل مثلما طلب مني الحارس، وأكتب اسمي، «بَمبَة كَشّر» (راقصة شرقية من القرن التاسع عشر- وهو أيضًا الاسم الذي أعطيته لكلبتي الصغيرة اللطيفة التي تبنيتها قبلها بأيام). ملأتُ بقية البيانات المطلوبة بشكل عشوائي وأعدتُ الدفتر إليه، في انتظار أن يبدي أي ملاحظة؛ لكنه لم يلاحظ أي شيء. على مرّ السنين، زرتُ متاحف وحضرتُ معارض بوصفي سامية جمال، وفردوس محمد، وبهيجة حافظ، وكل أسماء الممثلات والراقصات من العصر الذهبي للسينما المصرية. أعتبر ذلك تمردي الصغير ضد الاستهلال الذي أراه يحمل قدرًا من التهديد والوعيد على أبواب تجربة يُفترض أن تُلهِم الإنسان وتحرر روحه وأفكاره (أليست هذه وظيفة الفن أصلًا؟).
لكنني، بعيدًا عن الإجراءات الأمنية، كنت أشعر بسعادة العودة إلى معرض حقيقي، ومشاهدة فن «من لحم ودم»، بدلًا من إرهاق عيني وأنا أمرر بإصبعي المربعات الصغيرة التي تظهر على حسابي على إنستجرام. لقد أصبح انتقاد سنة ٢٠٢٠ نغمة مستهلكة، مع ذلك يجب أن أقول إن هذا العام فعلاً قد وجَّه، بلا شك، ضربة قاصمة للقطاع الثقافي في مصر، وهو قطاع كان فيه ما يكفيه.
ورغم ذلك كان عامًا جيدًا، في العديد من المناحي، للفنون البصرية على وجه الخصوص. أولًا، استبقه حدثٌ يدعو للتفاؤل، تمثَّل في العودة المظفّرة لبينالي القاهرة الدولي (حتى وإن حظي بتغطية إعلامية ضعيفة) عام ٢٠١٩. ثم، عندما بدأ الحظر في مارس، اضطر الكثير من الفنانين إلى التخلي عن إيقاع الحياة اليومية السريع والمستنزِف للجهد والوقت، والشروع في التروي بعض الشيء، بعدئذ أدركوا أن العالم بأكمله يتروى معهم. وسنحت لهم فرصة نادرة لإعادة التدبّر في الأفكار القديمة والمشروعات المهجورة، أو حتى مجرد الاستمتاع بعملهم. أما الجاليريهات الفنية التي كانت قد أغلقت أبوابها، ففوجئت هي نفسها بمسار الأمور. فمع اتجاه الناس إلى التسوق عبر الإنترنت لمكافحة الملل، وجدت الجاليريهات مبيعاتها عبر الإنترنت تحلِّق عاليًا. لحسن الطالع، أبقى هذا الأمر سوق الفن صامدة. أمّا «حبة الكريز» على رأس الكعكة فجاءت في نوفمبر ٢٠٢٠، مع إعادة افتتاح «متحف الفن الحديث» بعد عشر سنوات كاملة من الإغلاق.
مع ذلك، فليس الكوب ممتلئًا لآخره. فبالرغم من هذه الانتصارات الصغيرة، كانت سنة صعبة للفنون عمومًا. قبل أن يضرب الوباء مباشرة، شددت نقابة الفنانين التشكيليين قبضتها على المشهد الفني المصري بعد أن منعت أي جهة مستقلة من تنظيم أي أنشطة فنية قبل الحصول على تصاريح من النقابة ودفع رسوم لها. وما زاد الأمر سوءًا أنهم قَصروا شُعَب النقابة على الفنون التقليدية (مثل النحت، والتصوير، والديكور، والجرافيك، والخزف)، متجاهلين الأشكال المعاصرة والمفهومية. ثم، وكأن كل ذلك لا يكفي، ومع اضطرار المواقع الفنية والثقافية إلى إلغاء فعالياتها واسترداد التذاكر بسبب الحظر، لم يجد بعضٌ من القلّة الباقية من الهيئات الثقافية الصغيرة وغير الربحية في مصر خيارًا إلا الإغلاق.
وبصرف النظر عن الوباء، فالبيئة الفنية في مصر ليست بيئة صحية. إذ يجد الفنانون أعمالهم محاصرة بين التسليع، من أجل تحقيق نجاح في سوق الفن، والرقابة الذاتية الضرورية، من أجل تجنب المشكلات مع المؤسسات الخاضعة لحراسة مشددة من الحكومة. هكذا، لا يجد الفنانون وسيلة لكسب العيش إلا بالانسياق مع الماكينة البيروقراطية، أو بالخضوع لأذواق «المجتمع الراقي» التي غالباً يُمليها مهندسو الديكور. وفي كلتا الحالتين، يضطرون إلى إنتاج فن لا يجرح مشاعر أحد، ولا يستفز أحدًا، ويظل في المنطقة الآمنة. شيء ممتع جدا!
كثير من الأفراد من الجانبين (الحكومي والتجاري) يدركون هذه المشكلات، وظلوا ينادون بإحداث توازن داخل هذه المنظومة المشوهة وغير المتكافئة. وتتضح أكثر فأكثر الحقيقة المؤلمة: أن خلق بيئة أكثر إنصافًا وقدرة على رعاية الفنانين إنما يحتاج أولًا إلى تطوير مناهج التعليم الفني في الجامعات الحكومية وجعلها أكثر تقدمية، مع تمكين المدراء الفنيين المستقلين، ومنظومات رعاية الفن، وصياغة قوانين تحمي إنتاج الفنون المعاصرة، وإفراد مساحات أكبر لحركة نقدية قوية، محايدة ونزيهة. مع ذلك، وقبل كل شيء، ثمة حاجة ملحة إلى عودة الهيئات غير الربحية التي اختفت بالكامل، أو كادت.
الهيئات غير الربحية، شأنها شأن كل شيء آخر، تأتي مع مشكلاتها الخاصة بالطبع. في الماضي، كانت تواجِه الانتقادات لأنها تُكيِّف أنشطتها وفقًا لأجندات الجهات المانحة (ومعظمها جهات غربية)، التي تأتي عادة مع أفكارها المسبقة، ورغبتها الحماسية في «إنقاذنا» عوضًا عن الاكتفاء بتقديم الدعم لنا. هكذا، كان الفنانون، من أجل لفت انتباه مجتمع الفن الدولي، يحصرون أعمالهم في قضايا معينة مثل القمع السياسي، أو التمييز الجندري، أو أي موضوع آخر من قائمة «الشرق الأوسط» المعروفة للموضوعات الجدلية. رغم ذلك، فلا شك أن تمويل الجهات المانحة، على مرّ السنين، ساعد عددًا لا يحصى من الفنانين، وسمح لمؤسسات ثقافية مهمة بالنمو والازدهار، والتطرق إلى مشكلات تتسم بالحساسية. فالمنظمات غير الربحية، التي لا تخضع لضغوط السوق التجارية، وعندما تتمتع بقدر كافٍ من الحرية، هي المؤهلة أكثر من غيرها للحفاظ على نزاهة المجتمع الفني، والسماح له بتطوير أفكار عميقة، وهي أمور أساسية لأي منظومة فنية صحية.
في أي مشهد فني، سوف نظل نرى لاعبين يسعون إلى المصلحة العامة، وآخرين لا يعملون إلا لخدمة مصالحهم الخاصة، ولكن في النهاية كلهم مهمّون. بدون فرص عادلة للجميع، وبخاصة للأفراد والهيئات المستضعفة في مجتمع الفنون، لن نشهد أبدًا توازنًا يسمح بنشوء أفكار جديدة وإبداع أعمال فنية عظيمة بحق.