Issues
//
Music

موسيقى المهرجان

صدي صوت المعركة

بقلم أحمد ناجي
أثارت موسيقى "المهرجانات" جدلا كبيرًا بين عشاقها وكارهيها. فمن ناحية صارت تحظى بنسب استماع ومشاهدة هائلة، ومن ناحية أخرى أصبحت تتعرض إلى هجوم عنيف على المستويين الإعلامي والرسمي. يستعرض الكاتب والناقد الموسيقي أحمد ناجي في هذه المقالة نشأة "المهرجان"، وتطوره، وأنماط إنتاجه، وأبرز منتجيه، والمسارات التي بدأ يسلكها في اتجاه التحول إلى صنف موسيقي راسخ، واندماجه مع غيره من الأنواع الموسيقية المحلية والعالمية.

 

أغاني المهرجانات كلماتها حرة، لا تمر على الرقابة، شعراؤها قادمون من خارج الوسط الثقافي والغنائي، قاموسهم ملتصق بأسفلت الشارع، لديهم طموح التعبير عن المناطق الهامشية التي ينتمون إليها وإعلاء اللهجة المحلية.

 

 

 

منذ حوالي ثماني سنوات، قابلت عمرو حاحا للمرة الأولى. كنا في منزل السادات بصحبة علاء فيفتي. الاثنان لا يتوقفان عن الكلام والغناء. بينما لم ينطق حاحا بأكثر من ثلاث عبارات على مدار ساعة، جالساً خلف شاشة اللابتوب الذي وُلدت عليه موسيقى المهرجان للمرة الأولي. 

كان ذلك عام 2012. الثورة في الشارع، والبلد في حالة سيولة، وموسيقى جديدة تولد. حكي لي حاحا عن علاقته بالموسيقى التي بدأت من خلال عمله في تجارة “الموبايلات”. في ذلك الزمن البعيد، انتشرت ظاهرة بيع رنّات الموبايل. حيث تذهب إلى محل الموبايلات وتختار أغنية، فيقوم الفني بتحميل الرنّة على جهازك، وذلك عبر إدخالها بأكواد إلكترونية بسيطة.

طوّر حاحا مهاراته حتى أصبح قادرًا باستخدام “كيبورد” الموبايل على إخراج ألحان لا تحاكي الأغاني الشهيرة فقط، بل تمزج بينها، وأحيانًا يُخرج نغماته الخاصة.

سحب نفساً من سيجارته وحكي لي البداية في عام 2010، حين استيقظ من قيلولته ذات يوم وقد علقت في ذهنه بقايا حلم غريب. استخدم “الكيبورد” لكتابة وتنفيذ ما سيعرف بعد ذلك بلحن “الشَّنْدَرَبولّه”. سيرفع حاحا اللحن على الانترنت، ليجذب آذان الجماهير الشابة ومن ضمنهم السادات وفيفتي، الثنائي الذي سيحترف الغناء مع حاحا ليشكلوا معًا الموجة الأولى موسيقى المهرجانات.

الآلة الموسيقية الأساسية في موسيقى المهرجان هي الكمبيوتر، ولوحة المفاتيح هي أوتار العزف. وهي بذلك تندرج تحت بند الموسيقى الإلكترونية، لكنها لا تكتفي بتراث الموسيقى الإلكترونية الغربي، بل تولّف إيقاعاتها وجملها اللحنية بالإيقاعات الشرقية. يحب حاحا أن يقدم نفسه بأنه “موزّع أرتام شرقية”.

من الشارع خرجت المهرجانات، مصنعها الأفراح الشعبية في المدن الكبرى. في عام 2012 سوف نسمع على ألسنة مغني المهرجانات عبارات من نوع “إحنا مزيكا الشارع”، وأثناء حوارات متفرقة مع السادات في ذلك الوقت كثيراً ما كان يقول “إحنا صوت الغلابة والحواري الشعبية”. بدا وقتها الخطاب متجانساً مع لحظة الحماس الثوري، لكنه كان أيضًا تعبيرًا عن أزمة هوية واجهت هؤلاء الفنانين. فمنتجو الموسيقى الإلكترونية لم يعترفوا بهم لأنهم لا يتحدثون الإنجليزية، والفنادق والنوادي الليلية لم تفسح مجالًا لهم، كذلك لم يعترف بهم، في البداية، “المغنون الشعبيون”، لأن أغانيهم تخلو من الموّال والجوابات والمردّات. لذا، كان قرارهم غير الواعي بالانشقاق وتأسيس نوع جديد من الموسيقى والصعود به من أسفل إلى أعلى، وتقديم أنفسهم بوصفهم صوت المناطق الحضرية الهامشية حول المدن الكبيرة.

بدأ معظم مغني المهرجانات من الأفراح الشعبية. السادات راقصاً في الأفراح، أوكّا وأورتيجا عملا في مهنة الـ”دي جيه” و”الصيَّيت”. بعض مغني المهرجان في ذلك الزمن كانوا بالأساس “نبطشيّة”. “النبطشي” هو صدي صوت الجمهور والمغني في الفرح الشعبي. هو ماسك “الحديدة” ومردِّد التحيات القادمة من الجمهور مع “النقوط”، وأحياناً ما يلعب دور الكورال خلف المغني.

قبل ظهور المهرجانات كان الفرح الشعبي يُحيِيه “دى.جيه”، أو فرقة موسيقية، ومغني شعبي أو اثنين، وراقصة أو أكثر. ثم جاءت عاصفة المهرجانات وتغيّر كل هذا، لم تعد هناك فرق موسيقية على المسرح، وبدلًا من الراقصات، أصبح الشباب من الجمهور هم من يرقصون، تحولت الأفراح الشعبية إلى حفلات مخصّصة حصريًّا للذكور الشبّان، فالرجال الأكبر سنًّا لم يستسيغوا الموسيقى ولا الأجواء الجديدة.  

مع تغيير الموسيقى تغير الرقص. يحكي لي إسماعيل فايد الناقد والكاتب المتخصص في الفنون المعاصرة عن لقائه عام 2008 بباحث إسباني جاء إلى مصر وحاول توثيق موجة “البريك دانس” خصوصاً في المناطق الشعبية. 

انتقلت حركات وخطوات “البريك دانس” المرتبط بثقافة “الراب” و”الهيب هوب” الأمريكية إلى مصر، لكن أضيفت إليها خطوات وحركات من الرقص الشعبي المصري، مثل الرقص بالمطاوي. رويداً رويداً طردَ الراقصون الذكور الراقصات الشرقيات من على مسرح الأفراح الشعبية، وارتبط هذا الرقص الجديد بموسيقي المهرجانات وصعد معها.

يري فايد عدة أسباب للانتشار الطاغي لرقص المهرجانات خصوصاً في الأفراح: “أولاً البريك دانس ليس غريبًا، فجزء كبير من تراث الرقص عمومًا وفي مصر خصوصًا يقوم على إعادة تمثيل المعارك، لكن بدلًا من أن تقتل خصمك تتفوق عليه بمهارتك. يظهر هذا بوضوح في رقصة التحطيب مثلًا. أما السبب الثاني فهو انسحاب الوجود الأنثوي من المجال العام في مصر. فبداية من التسعينيات مثلًا تحول الرقص الشرقي في الأفراح الشعبية إلى نوع من ‘الاستربتيز’، حيث ترتدي الراقصة ما يشبه المايوه البكيني وتقدم سلسلة من الحركات الإغرائية. أما الرقص الشرقي الذي تقدمه دينا أو فيفي عبده فأصبحت تكلفته عالية، وإذا أردت مشاهدته فعليك بفنادق الخمس نجوم. لذا كانت الساحة مهيأة لاستقبال رقص المهرجانات”.

مع النجاح الساحق لمطربي المهرجانات بدأت ماكينة الإنتاج الثقافي والفني في الالتفات إليهم. سارع امبراطور الأفلام الشعبية أحمد السبكي باستثمار نجاح المهرجانات، ودفع بها في أفلامه، ودعم بشكل خاص فرق “أوكا وأورتيجا”، و”المدفعجية”، و”الدخلاوية” من الإسكندرية. اقتحمت أغاني المهرجان السينما لكن الخلطة الذهبية كانت مع محمد رمضان، الذي قدم سلسلة من الأفلام عن شخصية ابن البلد/ البلطجي/ الصعيدي الفقير، وفي كل فيلم يغني بالاشتراك مع مغني مهرجان أغنية تتحول إلى تيمة للفيلم وإعلانًا ترويجيًّا له.

تحول مغنّو هذا الاتجاه إلى جزء من صناعة الترفيه والموسيقى التجارية في مصر. حصلوا على تراخيص من النقابات الفنية. فتحت لهم أبواب قاعات الأفراح في الفنادق الفخمة. تدافعت شركات الإعلانات للتعاقد معهم. لكن مع الأبواب المفتوحة جاء التنميط، ومطالبتهم بالاستمرار في إنتاج الموسيقي نفسها في كل مرة، بل والمحافظة على نفس الصورة والشخصية. صورة الشاب الغلبان الذي يرتدي ملابس غير متناسقة لكنها فاخرة. 

أنتج كل ما سبق ظاهرة محمد رمضان المغني كأحد أبرز أصوات المهرجانات التجارية؛ نجم محبوب مدعوم من الدولة ومؤسساتها، يعيد بلا ملل ولا كلل غناء ذات اللحن على ذات الموسيقى، ويتباهى بارتدائه “بوكسر” من فيرزاتشي.

أما الاتجاه الثاني فمثّله السادات وعلاء فيفتي، اللذان لم يجدا مساحة في السوق التجاري نتيجة الطابع الثوري لبعض أغانيهما في تلك الفترة. كانا يغنيان للثورة المستمرة، أو مهرجان “الداخيلة بتقتل فينا”. لكن فتحت لهما أبواب المسارح الثقافية والمراكز الثقافية الأجنبية، وصارا من سفراء موسيقى المهرجانات للعالم. حملا موسيقى المهرجانات إلى أوروبا وتعاونا مع عدد من الموسيقيين الغربيين في أعمال متعددة. وكان من أوائل المنتجين الفنيين الذين التفتوا إلى هذا النوع الموسيقي محمود رفعت وشركته “100 نسخة”، التي كانت لسنوات استديو وشركة إنتاج فني متنوعة التوجهات، من الموسيقى الإلكترونية التجريبية حتى أغاني الروك العربية. ثم التقط رفعت ذلك الصوت الفني الجديد المسمى “مهرجان”، وتمكن من تقديمه إلى أوروبا والنخبة الفنية والثقافية المصرية عبر إدماجهم في المهرجانات -بالمعنى الأصلي للكلمة- ذات الطابع الفني المعاصر، أو، باختصار، عبر تقديمهم إلى “وسط البلد”.

ثم حل ظلام على المدينة، دماء في الشوارع، غول السجن يلتهم الآلاف في معدته ولا يشبع. عادت الدولة لتسيطر على المجال العام. وبعد عام 2014، جرى التضييق على أفراح الشارع، أغلقت الكثير من المسارح والمؤسسات الثقافية، وكَّلت الدولة نقابة الموسيقيين للسيطرة على المجال الفني، ومنحت نقيب الموسيقيين (أمير الإحساس هاني شاكر) الضبطية القضائية، فانطلق محاولاً فرض الهيمنة على المجال ومطاردًا بشكل خاص مغني المهرجانات. مرة بدعوة عدم حملهم لتصاريح بالغناء أو عضوية النقابة، ومرة بسبب اتهامهم بالترويج للمخدرات وإفساد الذوق العام بكلماتهم البذيئة.

سهولة إنتاج موسيقى المهرجانات شجعت مئات الشباب على اقتحام المجال، وأصبح الاقتباس سمة أساسية للموسيقى المنتجة، يعيد الكثيرون تدوير ذات الإيقاع أكثر من مرة. لذا ظلت الكلمات البصمة النوعية للمهرجان. يمكن أن تتشابه موسيقى المهرجان أو حتى تركّب على أي ألحان من أنواع موسيقية أخرى، لكن فقط حمو بيكا يمكنه أن يغني من كلمات “الشاعر الفاجر”: “والعة وكلّها بتطير/ والأخصام جُم طوابير/ وأنت مَسَكت السرير/ خُفت تدخل في اشتباك (…) ده يبيع أمه بقرش حشيش” (مهرجان “هانضرب نووي”).

أغاني المهرجانات كلماتها حرة، لا تمر على الرقابة، شعراؤها قادمون من خارج الوسط الثقافي والغنائي، قاموسهم ملتصق بأسفلت الشارع، لديهم طموح التعبير عن المناطق الهامشية التي ينتمون إليها وإعلاء اللهجة المحلية. 

الكثير من المهرجانات تُكتب بالطلب، فمثلاً يأتي “إسلام سنُّوفه” ليتفق مع مغني المهرجانات “س” أن يغنى في فرحه، يدفع العربون ويطلب مهرجانًا خاصًا، فيقوم المغني “س” بتكليف شاعره الخاص بكتابة أغنية لهذا الفرح. لذلك، يبدأ الشكل التقليدي لأغنية المهرجان بمدح الشلّة والأصدقاء، ثم توجيه التحية لصاحب المهرجان، ثم سطرين عن غدر الأصحاب. ثم يأتي الجزء الأقوى في المهرجان وهو المعركة، حيث يبدأ المغني بالتنكيل لفظياً بعدوّ مجهول أو وصف معركة دائرة بالسيوف و”الآلي”. وينتهي أخيرًا بتوجيه التحيات لصاحب الفرح وأصحابه وأصحاب المغني.

يكتب بعض المغنين كلماتهم بأنفسهم، لكن هناك شعراء مجهولين شكلت كلماتهم قاموس أغنية المهرجانات مثل “الشاعر الفاجر”، و”شاعر الغِيّة”، و”المجذوب”. بعضهم يلتزم بالبناء التقليدي لأغنية المهرجان، والبعض يرفض الكتابة بالطلب، ويرى أن توجيه التحيات لجمهور الفرح وظيفة المغني والصيِّيت، لا الشاعر. 

سرعة إنتاج أغاني المهرجانات وسرعة انتشارها وتوزيعها، وتكرار الألحان والتيمات، جعلت عمرها قصيرًا جدًّا. تظهر الأغنية وتتصدر قوائم الأعلى استماعًا ومشاهدةً ثم تختفي في غضون أيام لتحل محلها أغنية جديدة مستنسخة من نجاح السابقة. جزء من هذه الفوضى ناتج عن غياب أي منظومة قانونية لعالم المهرجانات، فلا توجد عقود، ولا شركات إنتاج، ولا ملكية فكرية. لذلك تتكرر أخبار الخلافات، مثلما مع أغنية “بنت الجيران” التي أقتُبس لحنها من إحدى أغنيات محمد حماقي.

تعمل منظومة إنتاج المهرجانات خارج منظومة إنتاج الموسيقى والأغاني المصرية. منحها هذا الحرية حيث لا رقابة تُعرض عليها كلمات الأغنية. لكنه، من ناحية أخرى، أضاع مجهود الفنانين الذين لا يجدون قوانين تحمي إبداعاتهم.

حاصرت الدولة المساحات العامة لعزف الموسيقي، غير أنّ تطور الإنترنت أعطى دفعة لمنصات عرض الأغاني والموسيقي مثل “سبوتيفاى” و “أنغامي” و “ديزِر”، التي نقلت الإنتاج الموسيقي بشكل عام وموسيقى المهرجانات بشكل خاص، إلى أفق آخر.

يعمل “ك” محررًا موسيقيًّا في واحدة من تلك المنصات، ويوضح كيف يحدث الإنتاج الموسيقي الآن في خطوات بسيطة:

-أنت تنتج الموسيقى، ثم ترفعها على أحد منصات بيع الموسيقى مثل DistroKid أو TuneCore أو CD Baby.

-ترفع الأغنية هناك وتحدد حقوق كل مشارك في صنعها، مثل 40% للمنتج و60% للمغني.

-تتولى المنصة بيع الأغنية وتحصيل العائدات من مختلف المنصات الموسيقية مثل “آبل ميوزيك”، “آي تيونز”، “سبوتيفاي”، “أمازون ميوزيك”، “تيك توك”، “جوجل بلاي”، “تيدال”، أو “تينسِنت”.

كل ما سبق يعني أن توزيع الموسيقى العربية، للمرة الأولى، أصبح في يد شركات عالمية أخرى تعمل بلا رقابة من الأنظمة العربية، دون أن تدفع ضرائب، ودون أن يمتلك الفنان أي سلطة لمراقبة أرقامها ومعرفة حقّه و”رأسه من رجليه”. والأهم دون أن يمتلك الفنانون القدرة على التفاوض مع تلك الجهات.

يوضح شارل عقل في مقاله المنشور بـ”مدى مصر” تحت عنوان “سبوتيفاي وأنغامي، وخدمات بث الأغاني: الفردوس المفقود أم إسكان عشوائي” كيف أصبحت تلك المنصات تتحكم بشكل مطلق في عائد بيع الأغاني قائلاً: “تقدّر شركة سبوتيفاي العائد عن بث أغنية مرة واحدة لمستخدم واحد بما يتراوح بين $0.006 و$0.0084.. أي ربحًا قدره أقل من دولار واحد (ثمانون سنتًا)، إذا استمعتَ لألبوم موسيقي من عشر مقطوعات عشر مرات. ليتم تقسيمه تباعًا على شركة البث وشركة الإنتاج، 30 % لشركة البث و70% لشركة الإنتاج غالبًا. حين تحصل شركات الإنتاج على العائد من البث، لا توزعه على الفنانين بالتساوي، كلٌّ حسب حصته في أعداد الاستماع، إنما كلٌّ حسب عقده مع الشركة، وقدرته على التفاوض معها. لذا فعائد بث أغنية واحدة لـ”تايلور سويفت” لا يتساوى تمامًا مع عائد تشغيل أغنية واحدة لمغنٍ متوسط الشهرة مع نفس شركة الإنتاج. الفنانون الأكثر جماهيرية لديهم الصلاحية للحصول على نسب أعلى خلال التعاقد. ما يجعل الأثرياء أكثر ثراءً، ويحطِّم أصحاب المحتوى الأقل شهرة”.

لن يجني حمو بيكا المبلغ نفسه الذي تجنيه “تايلور سويفت”، لكنه بالتأكيد سيحقق عائدات أكثر من تلك التي يحققها نجم جماهيري كبير كمحمد منير مثلًا.  

في لقاء له مع لميس الحديدي، حين سألته عمّا يجنيه من اليوتيوب فقط، أجاب حمو بيكا قائلًا إنه يحقق من يوتيوب حوالي 80 ألف جنيه مصري شهريًّا، فما بالنا بأرقام بقية المنصات.

يدخل هذا المال إلى جيب مغني المهرجانات مباشرة دون شركات توزيع أو شركات إنتاج مثلما كان الحال سابقاً، لذا فمن الطبيعي أن يثور المغنّون من أعضاء النقابة، وأن يستخدموا كل أسلحتهم في الهجوم على مغني المهرجانات، خصوصًا مع وصول أغاني المهرجانات إلى جمهور الطبقات الوسطة والغنية، حتى وصل الأمر إلى استدعاء الدولة رسميًّا لمغني مثل حسن شاكوش لتقديم أغنية “بنت الجيران” في أحد احتفالاتها الكبيرة.

يشعر المغنون التجاريون باهتزاز الأرض تحت أقدامهم، حتى أن أحدهم، رامي صبري، صرح العام الماضي قائلاً: “هي الناس مابقيتش تسمع كويس ليه؟ هو الجمهور اتغير لدرجة إن المهرجانات بقت بتشتغل أكتر من الأغاني؟ هو إيه إللي حصل يعني؟ يا ريت الجمهور يقدّر المجهود والشغل المحترم اللي إحنا بنعمله. ماينفعش التريند يبقي مهرجان. والله عيب!”.

 لكن “ك” رغم حماسه للموسيقى الجديدة والمهرجانات لا يرى أنها سوف تستمر بهذه القوة والانتشار طويلًا، فهي في رأيه: “موجة موسيقية تأكل نفسها وتعيد إنتاج ذات التيمات بشكل كثيف ومكرر مما يؤدي إلى ملل الجمهور سريعًا”. يضرب مثلًا على ذلك بحمو بيكا، فبعد الصعود الصاروخي لموسيقاه يتجه السهم إلى الأسفل، وأرقامه في تراجع.

انتبه عدد من نجوم المهرجانات وصنّاع تلك الموسيقي إلى هذا التكرار والاستنساخ وكيف يحبسهم الإعلام في صورة فنية محددة، مثل تحويل حمو بيكا إلى وريث لصورة شعبان عبد الرحيم، فاتجهوا إلى أنواع موسيقية أخرى مازجين بين تجربة المهرجانات وموسيقى الراب المصرية والعربية الصاعدة بقوة.

لا يزال “حمو بيكا”، و”الدخلاوية”، و”المدفعجية”، و”عبده سيطرة” يدورون في فلك صورة مغني المهرجانات التي تشكلت منذ عشر سنوات. لكن آخرين، مثل “السادات”، و”أورتيجا”، و”شبرا الجنرال”، و”علاء فيفتي”، وأخيراً “زوكش وعنبة” سلكوا مساراً آخر أكثر تجريبية؛ ابتعدوا عن صورة مغني المهرجان في الفرح الشعبي، ومزجوا بين المهرجان والراب والهيب هوب، لتبدأ موجة جديدة في الصعود. والفضل في ذلك يعود بالتحديد إلى جيل جديد من الموزعين الموسيقيين القادمين من أنواع موسيقية مختلفة مثل “توتي”، و”مروان موسى”، و”وزّة منتصر”، وبالطبع أهم اسم في عالم التوزيع الموسيقي وصانع النجوم أحمد أشرف الشهير بـ”مولوتوف”.

درس مولوتوف المونتاج، ولم يكن من هواة موسيقى المهرجان، بل كان أقرب لموسيقى التكنو والتراب والهيب هوب الغريبة. لكن نقطة التحول في حياته جاءت حين شاهد فيلم “إلكترو شعبي” للمخرجة الفرنسية التونسية “هند مِدب” الذي يوثق صعود موسيقى المهرجانات على أصوات الاشتباكات والمعارك التي أعقبت الثورة في عامي 2012 و 2013. يقول مولوتوف: “الفيلم خلاني أفكر إن موسيقى التكنو والتراب اللي أنا مسحول فيها، حلوة وكل حاجة لكنها مش من هنا، مش من ثقافتنا. في حين عندنا المهرجانات هنا حاجة بتاعتنا. اتسحلت في الموضوع وبدأت أسمع مهرجانات بتركيز وقلت هي دي المزيكا اللي عايز أعملها”.

رأى مولوتوف خيطًا مشتركًا بين موسيقى الراب والمهرجانات، وخلقَ من هذا المزيج صوتًا خاصًّا يقع في مسافة بين الاثنين، أصبح يعرف بـ”المولوويف”، والتي يعرّفها مولوتوف قائلاً: “هي موسيقى تحمل داخلها صدى أصوات من الفلكلور الصعيدي، وموسيقى التكنو، وموسيقى الدارك أسيد، مع ترددات من عالم موسيقى الهيب هوب”. يصمت مولوتوف مستحضرًا الكلمات المناسبة ثم يكمل: “هي موسيقى تحمل شحنة عالية من الطاقة، لكنها ليست طاقة الرقص، بل طاقة قادمة من حماس الثورة والتمرد، هي موسيقى أناركية في بنيانها، هي صوت الاشتباكات، الغضب، الاكتئاب، الحزن، والفرح كل التناقضات معًا في اللحظة ذاتها”.

كانت أولى التجارب الغنائية التي حققت شهرة واسعة وحملت اسم مولوتوف مهرجان “بالعب أساسي” مع علاء فيفتي، ثم توالت بعد ذلك التجارب مع نجوم المهرجانات بداية من السادات وحتى شبرا الجنرال.

يبسِط صوت موسيقى المهرجان سطوته على مصر، لكنه يظل، من ناحية أخرى، صوتًا ذكوريًّا بالكامل، فثمة غياب تام للأصوات النسائية بل وللوجود الأنثوي في كل المراحل الإنتاجية. ومهما حققتَ من نجاح تجاري، حتي لو أصبحتَ محمد رمضان، تتباهى بملايينك وسيارتك البورش، سوف تظل مؤسسات الدولة الرسمية ومنصات إعلام الطبقة الوسطى تصفك بصوت الانحطاط الفني، ولا تبذل جهدًا في إخفاء نبرة التحقير والسخرية من المستوى الطبقي والثقافي لمغني المهرجان والمناطق السكنية التي أتوا منها، فهم كما يصفهم نقيب الموسيقيين المصريين هاني شاكر (67 عاماً) : “آباء شرعيين للانحدار الفني والأخلاقي في المجتمع.”

مولوتوف

القادم من عالم الموسيقى الإلكترونية ليغير المشهد الموسيقي سواءً في الراب أو المهرجان. يُنصح بشدة الاستماع إلى أغانيه، خصوصًا مع السادات.

 

شبرا الجنرال

من أغرب التجارب الغنائية في المهرجان، خصوصاً على مستوى الكلمات التي يكتبها. له قاموسه الخاص ومواضيعه بعيدة عن المواضيع السائدة في المهرجانات، محاطة بهالة من الغموض وتنبع من منطقة الكوابيس. يخلط في أغانيه أحيانًا بين كلمات الشارع وقصائد كلاسيكية، وعبارات من قصائد عربية حديثة. يقفز في الأغنية الواحدة من اللهجة اللبنانية إلى الإسكندرانية. نرشح بشكل خاص أعماله مع حاحا، ومولوتوف، ومهرجان “أسفلت على الحديد جاز”.

 

جنرال أوكا

بعد انفصال الثنائي “أوكا وأورتيجا”، يتألق أوكا مستعرضًا مهاراته في الإنتاج الموسيقي المتشبع بتراث الموسيقى الشعبية، هو التعريف الحرفي للسهل الممتنع.

 

علاء فيفتي

كان علاء لسنوات طويلة “صدى صوت” مع السادات، بعد انفصال الثنائي تطلب الأمر عشرات التجارب المتنوعة حتى يكتشف علاء صوته الخاص. نرشح كل أغانيه التي أنتجها له “دى.جى توتى” أو “مروان موسي”.

سادات العالمي

“وحش المجرّة” الذي يغير جلده كل فترة. ابن مدينة السلام ولازال متمسكاً بالإقامة فيها. حوّل الاستديو الخاص به إلى قاعدة انطلاق وفتحه لفنانين من كل مكان. رعى عشرات التجارب حتى حصل على لقب “بابا المجال”. بشكل خاص نرشح ألبومه “مزيكا القرن الواحد والعشرون.”

 

المدفعجية

ملوك خلطة النجاح. إحدى أكثر الفرق تماسكًا منذ فترة طويلة. بدايتهم كانت من قاع موسيقى المهرجانات، واتجهوا الآن إلى مزيج ذي طابع خاص بين المهرجان والراب: