Issues
//
Art

منقولات

الفن العالق بين المدراء الفنانين ومهندسي الديكور

بقلم آتي متولي
ترجمة إيهاب عبد الحميد
السابعة مساءً. زقاق ضيق حالك الظلمة في وسط القاهرة؛ من حين إلى آخر تنبعث شرارات من قدّاحات بضعة رجال يجلسون على الرصيف أمام مسرح روابط المغلق. يشعلون سجائرهم، واحدًا تلو آخر، ويعاينون المارة القليلين الذين اختاروا دخول المنطقة من شارع النبراوي، فوجدوا أنفسهم وسط العتمة. بالاقتراب من نهاية الزقاق، يُبصر السائر ضوءًا خافتًا يتسرب من بين فتحات الشبابيك الخشبية عن يساره، ويوحي بحياة في الطابق للأول للبناية التي كانت، في سابق الأيام، جاليري «تاون هاوس»، أحد أهم المراكز المستقلة للفن المعاصر. تأسست هذه المساحة الفنية غير الربحية عام 1998، وسرعان ما ضم «مسرح روابط» و«فاكتوري» Factory Space المجاورَيْن له تحت جناحيه. بمرور الوقت، سوف يصبح مصدر إلهام للكثير من المبدعين الشبان، ولعدد من النشطاء الثقافيين، يدفعهم إلى تدشين مشروعات جديدة تحتضن الفن المعاصر.

 العديد من الفنانين ينتجون فنًّا برغم الظروف القاسية في مصر. إذ تظل لديهم موارد هائلة: الطبيعة المحيطة بهم، البيئة التي يعيشون فيها، آلاف السنين من التراث الفني، علاوة على ما يتمتعون به من ثقافة وتعليم. بعضهم ينتج أعمالًا أفضل مما يُنتَج في الخارج. المشهد عندنا يحتاج إلى صقل وتهذيب، لكن الفن الذي لدينا هنا في بلدنا حتى الآن فن أصيل.

أحمد الضبع، مدير “أوبنتو”

تقاطع شارع النبراوي وشارع حسين باشا المعماري بجانب جاليري “أكسس”. تصوير: طارق عطية

جانب من معرض الفنان سلام يسري الذي أقيم بجاليري “أكسس” في أكتوبر ٢٠٢٠. تصوير: أحمد منتصر.

يقع المبنى عند ناصية شارع حسين المعمار مع ممر ضيق، ببوابة تكاد تختفي بين ورش صغيرة لإصلاح السيارات. قبل وقت ليس بالبعيد، كنت ترى المنطقة تضج بالشباب الذين يدخنون الشيشة، ويشربون الشاي، ويعلبون الطاولة، ويهشِّمون الظلمة بحواراتهم الحيوية وهم ينتظرون عرضًا في «مسرح روابط» أو محاضرة فنية شيقة في «تاون هاوس». ورغم أن «الحظر» المرتبط بإجراءات مكافحة وباء كورونا ترك المنطقة خالية تقريبًا، فقد سبقت ذلك أحداث ومجريات غيّرت وجه واسم «تاون هاوس». كان المكان قد أغلق في ديسمبر ٢٠١٥ من قبل «هيئة الرقابة على المصنفات الفنية» و«مصلحة الضرائب»، بدعوى أن المراجعة الدورية أظهرت ارتكابه مخالفات إدارية. وفي عام ٢٠١٦ حدث انهيار جزئي للمبنى اقتطع جزءًا من مساحة «تاون هاوس». ورغم أن المكان استطاع تقنين أوراقه وتأمين المبنى في نهاية المطاف، كان قد خسر دوره بالفعل كصوت حماسي وجريء للفن المصري المعاصر.

معرض الفنان سلام يسري تضمن لوحات تصوير تدور على الجدران بشكر ميكانيكي. تصوير: أحمد منتصر

السنوات القليلة التالية كانت عصيبة على «تاون هاوس»، وظل مؤسِّساه النشيطان وليام ويلز وياسر جراب يكافحان من أجل الحفاظ على الزخم الذي حققه الجاليري لنفسه وللمشهد الفني عمومًا أثناء العقد الأول من إنشائه. في نهاية المطاف، اضطر ويلز إلى مغادرة البلاد، وتوفي جراب في أوائل عام ٢٠٢٠. وقرر اثنان من قدامى فريق العمل بالمكان -مينا نصحي ومحمد إبراهيم- الحفاظ عليه، لكنهما غيّرا اسمه إلى «ساحة أكسِس للفنون»، مع الحفاظ عليه بوصفه «مساحة تجمع بين الناس وهم يتنقلون بحرية عبر مختلف الأساليب الفنية» على حد وصف نصحي.

الخطوة الأولى التي اتخذها «أكسِس» باتجاه هذا المسعى كانت مع سلام يسري، الفنان متعدد المواهب، الذي افتتح المكان باسمه الجديد في أكتوبر بمعرض فردي تحت عنوان «تلصص». تضمنت أعمال يسري المبهرجة لوحات تصوير تدور على الجدران بشكل ميكانيكي، الأمر الذي يجبر بعض المشاهدين على استراق النظر وراء اللوحات ومعرفة آلية حركتها الغريبة.

على مدار بضعة أسابيع، عاد الزقاق المظلم يضج بالحياة من جديد. لكن هل كان الزخم قد انتقل إلى مكان آخر؟

من وسط البلد إلى الضواحي

في ١٦ أكتوبر ٢٠٢٠، جمعَ معرضٌ جماعي تحت عنوان «بصوت عالي» Out Loud العديد من الأسماء في المشهد الفني. دشن المعرض جاليري «إيزل آند كاميرا» Easel and Camera في نادي جولف دريم لاند داخل فندق «هيلتون بيراميدز جولف» بالسادس من أكتوبر، رافعًا شعار «كفى للفن المملّ!!»، موزعًا الأعمال الفنية في أرجاء الملعب الأخضر الفسيح. وبينما يداعب نسيم أكتوبر منحوتات آدم حنين، وعبد العزيز صعب، والسيد عبده سليم، ورضا عبد السلام، والكثيرين غيرهم، كانت أشعة شمس العصاري تشق طريقها وسط الأشجار لتتراقص بين تماثيل الجرانيت، والنحاس، والحجر الجيري التي تصور أشخاصًا وحيوانات، علاوة على القطع الفنية الأكثر تجريدية. وفي المساء، كانت الإضاءة المتقنة تضفي مزيدًا من البريق على المعروضات، فتزيدها جزالة وترفًا.

«أخيرًا، تحررت المنحوتات من قاعات العرض المغلقة، وخرجت للتمتع بالهواء الطلق في فضاء مفتوح»، هكذا ذكر البيان الصحفي الخاص بالمعرض. ولعله صادق في ذلك، فالمعرض الذي جمع ١٣٠ قطعة -معظمها من أعمال النحت علاوة على بضع لوحات تصوير- من إبداع 25 فنانًا مصريًّا مرموقًا (إضافة إلى اثنين من النحاتين العرب البارزين، من لبنان والعراق) أفاد بكل تأكيد من البيئة المترفة والزبائن المتوافدين من الكومبوندات الفاخرة، وخرج منسجمًا مع فضاء العرض.

جانب من معرض “بصوت عالي” الذي نظمه جاليري “إيزل آند كاميرا.” تصوير: أحمد منتصر

يقول يسري، «المشهد بأكمله يتغير الآن؛ السوق، والجمهور، وإدراك الفن نفسه، كلها تمر بالعديد من المنعطفات الجديدة، حيث تُفتتح جاليريهات فنية على أطراف القاهرة، في أماكن مثل التجمع الخامس، و٦ أكتوبر، علاوة على الفعاليات الفنية الباذخة التي صرنا نراها في الساحل الشمالي». ويضيف، «فهم الفن يتطور، ولا ننسى أن دخول وسائل الإعلام الاجتماعي قد أعاد تشكيل العلاقة بين الفنان والمتلقي أو المشتري». هذا التغيير ليس بمعزل عن القواعد الجديدة التي تؤثر في السوق وتدفعه في اتجاه «تجاري» أكثر. ورغم أن هذه المنظومة تعود بالفائدة على الفنانين الذين يخاطبون الزبائن الأثرياء، يعتقد يسري أن الأعمال الفنية التي تتميز بطابع أكثر معاصرة أو مفهومية ربما تأخذ فرصتها بدورها.

وفقًا ليسري، ازداد الاهتمام بالفن المعاصر على مدار السنوات الخمس عشرة الماضية. «زبائني معظمهم أصدقاء ودائرة من الناس الذين يحبون هذا النوع من الفن، أو زملائي من الفنانين المستقلين»، هكذا يقول، مشيرًا إلى الناس الذين يشترون العمل تقديرًا لقيمته الفنية فقط. غير أن هذه الطبقة الاجتماعية لا تمثل مستهلكين مثل جامعي الفنون أو هؤلاء الذين ينظرون إلى أعمال النحت والتصوير بوصفها شكلًا من أشكال الاستثمار، وهؤلاء الذين يقتنونه لاستخدامه كديكور، أو لمجرد التباهي به.

تمثال بمعرض “بصوت عالي” الذي نظمه جاليري “إيزل آند كاميرا.” تصوير: أحمد منتصر

«هناك الكثير من الجامعين في سوق الفن، لكن أغلبهم يميلون إلى شراء أعمال الفن الحديث التي أبدعتها أسماء راسخة»، هكذا تعلق وئام المصري، منظمة المعارض (curator) وصاحبة جاليري «إيزل آند كاميرا»، والدينامو المحرك وراء معرض «بصوت عالي». وتضيف، «بعض جامعي الأعمال الفنية يحتفظون بها لأنفسهم، بينما يطرح آخرون عددًا من الأعمال المختارة في مزادات دولية. هؤلاء الزبائن لا يسعون وراء الفن المعاصر من أجل المتعة؛ بل ينظرون إلى الفن بوصفه استثمارًا». تلفت المصري إلى أن جامعي الأعمال الفنية الذين يتمتعون بالصبر يحرصون على الاستثمار في الفن المعاصر الذي يبدعه فنانون في الثلاثينيات أو الأربعينيات من أعمارهم، ويرون طاقاته الكامنة التي سوف تظهر على المدى البعيد. «بالطبع يظل لدينا عدد قليل من الجامعين الذين يشترون القطعة الفنية فقط لأنها أعجبتهم». «معرضنا يقدم تشكيلة هائلة من الأسماء الراسخة والمدارس الفنية: التشخيصية، والتجريدية، والتعبيرية، وغيرها. المعيار الوحيد عندنا هو جودة العمل، وإرضاء كافة الأذواق». بالتالي، تصلح الكثير من المعروضات للاستخدام في أغراض الديكور في البيوت الكبيرة والفيلّات المسوَّرة في الكومبوندات القريبة.

الفن كديكور

عادة، يلعب مهندس الديكور دور الوسيط بين الفنان وجامع الأعمال الفنية. ويرى الفنان محمد فتحي حمزة، صاحب ستوديو «محمد فتحي» للتصميمات الداخلية، أن الطلب يأتي عادة من مناطق التجمع الخامس، والقطامية هايتس، وبيفرلي هيلز، و٦ أكتوبر، وغيرها من الضواحي الراقية. يقول، «الزبائن ينظرون إلى الفن بوصفه عنصرًا من عناصر أسلوب الحياة الراقي. مهندس الديكور يساعد في اختيار لوحة فنية أو تمثال ينسجم مع المساحة الخاصة بهم، ثم يضعه في موقع محدد تحت إضاءة محددة، فيصنع ذلك فرقًا هائلًا في ديكور المنزل».

البعض سوف ينظرون إلى ذلك نظرة سلبية، بوصفه انحطاطًا بالفنون الجميلة إلى مجرد عنصر من عناصر الديكور، غير أن الحقيقة أن ثمة جوانب إيجابية في هذا التوجه، وفقًا لحمزة. «تدخُّل مهندس الديكور يعود بالنفع على العمل الفني نفسه. إذا كانت لديك قطعة فنية غالية الثمن ولم تعرضيها بشكل جيد، لن تظهر قيمتها». بالطبع تقتضي هذه الملاحظة أن يكون دور مهندس الديكور لاحقًا على اختيار العمل الفني، لا أن يختار هو العمل الفني للمشتري.

هكذا، عندما يتعلق الأمر بجامعي الأعمال الفنية، نجد أن القطع الفنية المعاصرة والمفهومية الجريئة، التي نادرًا ما تصلح كأغراض للديكور، لا تحظى بنصيب وافر في السوق المصرية. لكن الفنان محمد عبلة يرى أن ذلك الوضع ليس مقتصرًا على المشهد المصري. «الفن المعاصر لا يجب أن يعتمد في بقائه على المبيعات وحدها. الفن المفهومي والمعاصر موجود فقط لاستثارة نقاشات أثناء الفعاليات والمعارض. يجب أن نميز بين الفن الذي يتكلم عنه الناس والفن الذي يستهلكه الناس». لكن إذا كانت تلك هي الحالة، ألا يجب علينا أن نتكلم، بل وأن ننتقد، وأن نرفع السقف؟

وئام المصري ترى أن دور المدير الفني هو تثقيف الجمهور وجامعي الأعمال الفنية. تقول، «عدد قليل من جامعي الفنون يعرفون كيفية الحكم على الأعمال الفنية بطريقة سليمة، وكثير منهم يفتقرون إلى المعرفة أو الخبرة. بوصفنا مدراء فنيين، وأشخاصًا مشتغلين في السوق عمومًا، نستطيع توجيه المشتري، أو شرح أهمية العمل، أو قيمته من الناحية الاستثمارية».

لكن كيف يستطيع عموم الجمهور مواكبة ما يحدث في عالم الفن دون فتح مناقشات ودون تواجد ملحوظ للفنون البصرية في وسائل الإعلام؟ يرى كثير من المحترفين أن الاهتمام الضئيل الذي توليه الصحافة للفنون ينصب بالأساس على الموسيقى والسينما. أما الفنون البصرية، فلا تحظى إلا بتقارير جافة عن الفعاليات الفنية في أفضل الأحوال، بينما يغيب النقد الفني العميق الذي يساعد في تشكيل التوجهات، والأذواق، والآراء. يقول عبلة، «المشكلة الحقيقية هي غياب النقاشات. بالتالي، يظل الفنانون يكلمون بعضهم البعض».

أهمية النقاشات

غياب النقاشات، بالضرورة، يخنق الفن المفهومي، الذي يعتمد بالأساس على تبادل الأفكار، والمفاهيم، وفي نهاية المطاف على الطرح في وسائل الإعلام للوقوف على رأي الجمهور. الاكتفاء بعرض عمل فني معاصر لا ينجز هذه المهمة، مهما بلغ من إتقان أو حِرفيّة. هذه اللعبة تحتاج إلى بنية تحتية متكاملة. «نحتاج إلى فنانين، ومدراء فنيين، وجامعي أعمال فنية، وجمهور. في مصر ليست لدينا بنية تحتية من هذا النوع»، هكذا يقول معتز نصر (نصر الدين)، مؤسس «مركز درب ١٧١٨ للفنون والثقافة»، إحدى المنظمات غير الربحية النادرة والبارزة التي تعمل في مصر منذ عام ٢٠٠٨. 

لقد شهد ميدان الفنون المصرية دخول لاعبين متحمسين من الأفراد والهيئات إلى الساحة الفنية من أجل إعطائها زخمًا وخلق أجواء مواتية. ولعل المبادرة الأحدث جاءت من «آرت ديجيبت»، التي جلبت الفن المعاصر إلى شارع المعز لدين الله التاريخي عام ٢٠١٩، بدعم من مؤسسة اليونسكو. أُطلق على المعرض اسم «سرديات مُعاد تخيلها»، وعرض أعمال ٢٨ فنانًا معاصرًا على خلفية معمار تاريخي. أسست نادين عبد الغفار منصة «آرت ديجيبت» بهدف الترويج للفن المصري، وفي الوقت نفسه لفتِ الأنظار إلى المواقع التراثية وضرورة الحفاظ عليها. في العامين السابقين جلبت «آرت ديجيبت» أعمالًا فنية معاصرة إلى «قصر المنيل» (٢٠١٨)، و«المتحف المصري» بميدان التحرير (٢٠١٧)، من أجل «الربط بين ماضينا وحاضرنا الإبداعي»، كما يقول موقع المنظمة. في عام ٢٠٢٠، بالإضافة إلى المعارض الفنية التي أقيمت في وسط البلد، اختارت المنظمة منطقة الأهرام الأثرية لإقامة معرضها الأحدث «الأبد هو الآن».

من جانبه، واصل نصر الدين ممارسة دوره كلاعب ثقافي مستقل، ونظّم مبادرة «شيء آخر- أُوف بينالي» Off Biennale للفن المعاصر، كفاعلية مقابلة لبينالي القاهرة الذي تنظمه وزارة الثقافة المصرية. أقيم الـ«أوف بينالي» مرتين في عامي ٢٠١٥ و٢٠١٨، في «درب ١٧١٨» وأماكن أخرى، وعُرضت فيه أعمال فنية لأكثر من مئة فنان مصري وعالمي، كما نظم برنامجًا ثريًّا من الفعاليات شمل محاضرات، وورش عمل، وعروضًا أدائية، وعروض أفلام.

«الإدارة الفنية أحد أهم العناصر في الفن المعاصر التي لا تزال بحاجة إلى تطوير في مصر. المدير الفني (القوميسور) هو شخص لديه المعرفة والرؤية، ويستطيع أن يَجسر الفجوة بين الفن والجمهور». المدير الفني يخلق القصة. «هذا هو الشيء الأهم»، يقول نصر الدين، مضيفًا أن المدير الفني لا يختار الفنان وفقًا لاسمه أو بلده، ولكن لأنه يرى شيئًا يريد أن يقدمه؛ شيء ينسجم مع المفهوم، هكذا يصير لديك قصة في النهاية، «هذا الأمر غائب في مصر»

اشتراك الفنان في المعارض الدولية ذات الإدارة الفنية الجيدة يعطيه فرصة لتوسيع آفاقه، وتطوير أفكاره، وعرض أعماله والدراسة في الخارج. يقول نصر الدين، «أحد المدراء الفنيين للـ’أوف بينالي’ اختار خمسة فنانين مصريين، وأخذهم معه إلى معارض بينالي عديدة، في إيطاليا، والمغرب، وداكار. هكذا تسير الأمور. يجب عليك إخراج الفنانين من دوائرهم الضيقة، ومنحهم فرصة أن يختلطوا ويتشاركوا الخبرات مع فنانين آخرين من مختلف أرجاء العالم؛ أن يفتحوا قلوبهم وعقولهم».

تطوير الفنان

لطالما اعتمد مشهد الفن المستقل على ذاته في تطوير نفسه من أجل تعويض حالة الركود التي أصابت كليات الفنون الجميلة في الجامعات الحكومية. يقول أحد الخريجين الجدد ممازحًا، مفضلًا عدم ذكر اسمه، «المناهج تجمدت منذ السبعينيات». وما يفاقم المشكلة حاليًا هو أن وزارة الثقافة، على حد قول الكثير من الفنانين، لا تظهر اهتمامًا حقيقيًّا بتطوير مجال الفنون البصرية في مصر، مقارنة بغيره من أشكال التعبير الفني.

يتذكر صلاح المليجي، الأستاذ بكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان، أن الدولة في زمن سابق كانت تبدي حرصًا على مزيد من الاستثمار في الفنون البصرية، في الأيام الأولى لثروت عكاشة مثلًا، الذي أسس وزارة الثقافة أثناء الحقبة الناصرية، أو أيام فاروق حسني، الفنان التشكيلي الذي ظل وزيرًا منذ عام ١٩٨٧ وحتى ثورة ٢٠١١. وفقًا للمليجي، الذي كان رئيسًا لقطاع الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة عام ٢٠١١، فإن «قطاع الفنون قطاع ضخم، لكنه يقابَل بإهمال من جانب الوزارة في أيامنا هذه. لا توجد استراتيجية أو خطة واضحة لتطويره». يُنتظر من الوزارة التي تمتلك العديد من منشآت العرض أن تمنح الفنانين الشبان مزيدًا من الفرص لعرض أعمالهم.

على الجانب الآخر، يرى أشرف رضا، الرئيس الأسبق لقطاع الفنون التشكيلية، والذي يشغل حاليًا منصب وكيل كلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان، أن ثمة أمل في أن تصبح الأمور أكثر ديناميكية في المستقبل القريب. يقول رضا، «هناك اهتمام كبير بالفن المعاصر في العاصمة الإدارية الجديدة. الفن جزء من القوة الناعمة، ويجب علينا أن نعطيها منبرًا، أن نمنح مساحة للفنانين، وأن نطور ذوقًا عامًا لدى الجمهور. في العاصمة الجديدة ستصير لدينا ‘مدينة للفنون والثقافة’؛ متاحف متخصصة، والعديد من قاعات العرض والجاليريهات، وورش عمل للفنانين، وسمبوزيوم للفنون، ودار أوبرا، ومسارح، ومكتبة مركزية. مصر رائدة في كل الفنون في المنطقة وهذا سوف يظهر هناك بكل وضوح». كذلك يلفت رضا إلى مجمَّع الفنون والثقافة الجديد بحلوان، الذي يهدف إلى أن يصبح «مشروعًا ضخمًا به مسرح ضخم، ومتحف للفن المعاصر، وجاليريهات، وقاعات مؤتمرات، والكثير من المنشآت المتخصصة لتقديم أعمال الفنانين الشبان». تبدو بنية تحتية واعدة، لكن الرؤية الثقافية لا تزال غامضة.

لعل التغييرات القادمة تترك تأثيرًا إيجابيًّا على المشهد الفني المصري والمساحة التي يحتلها في السوق الدولية. إحدى الفرص النادرة لتعرّض الفن المصري للساحة الدولية تتمثل في الجناح المصري في بينالي فينيسيا الذي يُنظَّم برعاية حكومية. مع ذلك، ظل الظهور المصري متقلبًا بين النجاح والإخفاق في البينالي الأشهر. نالت مصر الوسام الأرفع عندما مُنحت جائزة «الأسد الذهبي» للثلاثي حمدي عطية، ومدحت شفيق، وأكرم المحجوب عن أفضل جناح وطني. وفي عام 2011، حظي معرض «٣٠ يوم جري في المكان» للفنان الراحل أحمد بسيوني، المدرس الجامعي الذي فقد حياته في الأيام الأولى لثورة يناير، بإشادات نقدية في الدورة الرابعة والخمسين لمعرض الفنون الدولي الذي نظم في إطار بينالي فينيسيا. بعدها بعدة سنوات، عام 2017، فاز الفنان المصري حسن خان بجائزة «الأسد الفضي» بالبينالي، عن عمله المركّب متعدد القنوات السردية «مقطوعة لحديقة عامة» Composition for a Public Park، الذي يجمع بين الموسيقى والنصوص المقروءة بثلاث لغات.

أما العمل المركّب الذي عُرض عام ٢٠١٥، في الدورة السادسة والخمسين للبينالي، تحت عنوان «هل ترى؟» ?Can you See، وأنجزه ثلاثة فنانين -أحمد عبد الفتاح، وماهر داود، وجمال الخشن- والذي يمثل هيكلًا ثلاثي الأبعاد من الألواح الخشبية، مغطىً بنجيلة صناعية تشكل حروف كلمة «سلام» PEACE، فكان أقل حظًا؛ اكتفت بعض المواقع المتخصصة بوصفه بأنه «جناح واجب المشاهدة»، بينما وصفته مواقع أخرى مثل Artsy بأنه «ظريف» و«عادي»، إنما «مؤثر على نحو غير متوقع».

أما المشاركة في الدورة الثامنة والخمسين من البينالي (٢٠١٩)، التي حملت عنوان «خنوم، راوي عبر العصور» Khnum Across Times Witness، والتي استعرضت تماثيل أبو الهول بعد استبدال رؤوسها بأطباق استقبال الأقمار الصناعية، من بين غرائب أخرى، فربما كانت أقل المشاركات حظًّا على الإطلاق. إذ قوبل العمل المركّب الذي يشبه المقبرة، الذي أنتجه إسلام عبد الله، وأحمد شيحة، وأحمد عبد الكريم بنقد قاسٍ في مقالة بعنوان «فنانون مصريون يزعمون تدخل الدولة في الجناح الوطني المثير للجدل ببينالي فينيسيا»، نشرتها صحيفة «أوبزرفر» البريطانية. المقالة، التي حاولت الغوص إلى جذور المشكلة، لفتت إلى أسباب عديدة تؤثر في قدرة مصر على تنظيم أجنحة قوية، منها «إدارة (الوزارة) للأجنحة، والبطء في عملية اتخاذ القرار»، و«عدد كبير من المشكلات غير المنظورة»، لا سيّما المناهج الجامعية التي عفّا عليها الزمن، والمحسوبية. 

عندما يتحدث المال

«غير أن المشكلة الأكبر التي يواجهها الفنانون ربما تنشأ عن نقص الدعم الذي توفره مصر»، هكذا لفتت «أبوزرفر» إلى واحدة من أبرز شكاوى الفنانين المستقلين. والحقيقة أن فرص التمويل ظلت محدودة للغاية على مدار السنوات الماضية. فبسبب اللوائح الجديدة التي فُرضت على المنظمات غير الحكومية عام 2014، صار التعاون الدولي أصعب منالًا. يتذكر حكيم أبو كيلة (31 عامًا)، أحد أبرز الفنانين الشبان الواعدين، كيف ساعدته منظمة «المورد الثقافي» عام 2013 في الحصول على مساحة عمل، وكيف عاد عليه ذلك بفائدة عظيمة. «وفروا لي مكانًا في جناكليس بالإسكندرية لكي أنتج فيه أعمالي الفنية، ولم يسألني أحد أي سؤال». «المورد الثقافي» واحدة من المؤسسات التي توقفت عن العمل في مصر، وتبعتها مؤسسة «جدران للفنون والتنمية».

لا شك أن إحدى وسائل الفنان للحصول على دعم هو المشاركة في مشروعات دولية تموَّل من الخارج، والتقديم على مِنَح مالية أو دراسية، أو إقامات فنية. غير أن أموال المِنَح قد تأتي مصحوبة بأيديولوجيات معينة، ما يجعل الفنان يفصِّل عمله تفصيلًا لتلبية توقعات المانحين.

وهناك أيضًا الرعاية المحلية. على سبيل المثال، يتذكر أبو كيلة بامتنان الدعم الذي تلقاه من جاليري «أوبنتو» في الزمالك. يتباهى «أوبنتو» بمساعيه لتحقيق الربح في إطار توجه عام يُعنى برعاية الفن. «الجاليري مشروع تجاري في كل مكان في العالم»، هكذا يعترف أحمد الضبع، مدير «أوبنتو». »لكي أعيش، يجب أن أكسب عيشي. كل تاجر فنون لديه رؤيته وقدراته الخاصة».

يسارع البعض إلى تلبية مطالب السوق العاجلة بوصفها الطريقة الأسرع لاستعادة استثماراته. أما الضبع، فاختار طريقًا مختلفًا، يعتمد على البحث عن فنانين جدد وتبنيهم بوصفهم مشاريع قيد التطوير. يقول، «دعم الفنانين الشبان لا يقتصر على شراء لوحاتهم وصب تماثيلهم البرونزية. إنه يتعلق بالاستثمار في شخصية الفنان، وبذل الجهد من أجل تطويرها».

بمرور الوقت، تضيف هذه المقاربة إلى سمعة المكان، وتجعله مختلفًا بين أقرانه، «وتجعل الجمهور يفهم أنك تروج لفن جديد وأنهم يستثمرون في الفنانين الشبان، خيول السبق الرابحة في الجاليري». لكنه يشدد أن ذلك ليس مجرد عمل خيري، «أنا واثق أن هؤلاء الشبان، في السنوات القادمة، سوف يحققون القيم الفنية التي سوف يرغب الناس في رؤيتها في بيوتهم ومكاتبهم».

ويستطرد الضبع قائلًا إن «العديد من الفنانين ينتجون فنًّا برغم الظروف القاسية في مصر. إذ تظل لديهم موارد هائلة: الطبيعة المحيطة بهم، البيئة التي يعيشون فيها، آلاف السنين من التراث الفني، علاوة على ما يتمتعون به من ثقافة وتعليم. بعضهم ينتج أعمالًا أفضل مما يُنتَج في الخارج. المشهد عندنا يحتاج إلى صقل وتهذيب، لكن الفن الذي لدينا هنا في بلدنا حتى الآن فن أصيل». ويؤكد حكيم أبو كيلة على هذا المعنى بموقفه: «رغم كل العقبات، لا أستسلم في عملي. لا زلت فنانًا؛ أنتج فنًّا وأبحث عن أماكن لعرضه فيها. أستطيع أن أكسب عيشي، وأيًّا كان ما يحدث حولي لا أبالي، لا أترك نفسي للظروف توقفني وتشلّ حركتي»، ويصر على أن تلك هي حال الكثيرين من زملائه الفنانين.

ومثلما علّق سلام يسري، في معرضه الذي أقيم بجاليري «أكسِس» («تاون هاوس» سابقًا)، فإن «التغيير موجود وحتمي. أنا متفائل. الاهتمام يتزايد والفن المعاصر يزدهر». في الأوضاع الحالية، ثمة احتمال كبير أن تستمر دائرة مستهلكي الفن، ببطء ولكن بخطىً ثابتة، في الاتساع، وأن تتسع اهتماماتهم لاحتضان الأصوات الجديدة الجريئة للمبدعين الشبان، حتى لو جاء ذلك نتيجة لزيادة عدد الجاليريهات التجارية التي تفتح في ضواحي القاهرة، وتخدم سكان الكومبوندات الفاخرة التي لا تتوقف عن الظهور يومًا بعد يوم.