Issues
//
Cinema

ماذا فعلتِ يا "نتفليكس"؟

كيف يتعامل صناع السينما مع التحديات والفرص الجديدة

بقلم إيهاب عبد الحميد
قبل انقضاء عام ٢٠٢٠، أطلقت منصة «نتفليكس» مسلسل «ما وراء الطبيعة»، أول مسلسل مصري من إنتاجها، بعد نحو سبع سنوات من دخولها عالم الإنتاج الدرامي بمسلسل «بيت من ورق» House of Cards عام ٢٠١٣.

دخلت المنصة الرقمية سوق الشرق الأوسط عام ٢٠١٦، وأصبحت متاحة تباعًا لجمهور المنطقة العربية. أنتجت أول برامجها بالعربية في مارس عام ٢٠١٨، برنامج «لايف من بيروت»، الذي قدمه الممثل والمذيع اللبناني عادل كرم، ولم يلقَ رواجًا كبيرًا وقتها، ثم أتبعته في منتصف عام ٢٠١٩ بأول مسلسل درامي عربي، هو مسلسل «جِنّ»، الذي أثار ضجة في وقتها لجرأته غير المعتادة وسط الأعمال الدرامية العربية.

مثل مسلسل «جِنّ»، تدور أحداث مسلسل «ما وراء الطبيعة» في عالم الفانتازيا. عادة ما يُنسب العمل السينمائي أو الدرامي إلى جهة إنتاجه، لكن مع ظهور منصات العرض الرقمية يبدو أن هذه القاعدة قد انكسرت. فالمسلسلان سالفا الذكر رغم كونهما غير عربيين «رسميًّا»، بمعنى أنهما من إنتاج شركة «أمريكية»، يتحدث الجميع عنهم، عن وجه حق، بوصفهما عربيين. الأول أردني: من إخراج «اللبناني» مير جان بوشعيا، و «الأردني» أمين مطالقة، صُوِّر في الأردن، وبممثلين أردنيين غالبًا، وباللهجة الأردنية، والثاني مصري، من إخراج «المصري» عمرو سلامة، بممثلين مصريين غالبًا، وباللهجة المصرية.

الضجة التي صاحبت عرض «ما وراء الطبيعة» لم تنشأ فقط عن كونه أول مسلسل مصري من إنتاج «نتفليكس»، ولكن أيضًا لأنه مأخوذ عن روايات أحمد خالد توفيق، الكاتب الذي يحظى بشعبية واسعة بين جيل الشباب، هؤلاء الذين بدأوا في قراءته صغارًا منذ عام ١٩٩٣، مع صدور أول رواية من السلسلة التي تحمل اسم المسلسل نفسه، وحتى عام ٢٠١٤ عندما انتهت السلسلة بموت بطلها.

الملصق الدعائي لمسلسل «ما وراء الطبيعة» من إنتاج نتفليكس

هذه الضجة وضعته بلا منازع بين أكثر الأعمال رواجًا في مصر على المنصة العملاقة.

لم يتوقف عمرو سلامة، مخرج العمل، عن إبداء سعادته على مواقع الإعلام الاجتماعي بكل نجاح يحققه المسلسل، بداية من دخوله قائمة أفضل المسلسلات في التاريخ (التي حُذف منها لاحقًا على نحو تراجيدي بدعوى تلاعُب عشّاق توفيق في التصويت)، وليس انتهاءً بدبلجته إلى ثماني لغات: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والتركية، والبولندية، والبرتغالية.

حماسة سلامة للعمل دفعته إلى توجيه الجمهور للطريقة الأمثل لمشاهدة العمل: «المسلسل يتشاف بشكل شرعي وبالجودة الأفضل وعلى إنترنت سريع/ يا ريت يتشاف على شاشة كبيرة مش على هاتف محمول أو تابلت/ تشوفه في غرفة مظلمة ومعلِّي الصوت، الصوت عامل مهم جدًّا ومؤثر في تجربة المشاهد/ يا ريت بلاش أكل بقى وحوارات جانبية ورغي. نركز علشان في ناس غلابة تعبوا في كل لقطة».

استقبل الجمهور ما وصفه بـ«تعليمات المشاهدة» تلك بهجوم ضاري على المخرج، فمَن أنتَ لكي تعلِّمنا آداب المشاهدة؟ إلا أننا نستطيع قراءة «تعليمات» سلامة في ضوء المعضلة التي سوف تسيطر على صناعة السينما وتلقّيها في العقد الثالث من قرننا هذا.

الجزء الأول من التوجيهات يتعلق بالمشاهدة «الشرعية»: والحق أن «نتفليكس»، وغيرها من منصات العرض الرقمي، حاربت المشاهدة غير الشرعية بأفضل سياسة ممكنة، وهي الإبقاء على قيمة الاشتراك في متناول المشاهد. في مصر، تستطيع مقابل ١٠ دولارات شهريًّا الحصول على «شاشتي عرض» من «نتفليكس»، أي أن الشاشة الواحدة للمستخدم الواحد تتكلف ٥ دولارات شهريًّا (أقل من ٨٠ جنيهًا لكل مستخدم). هذا السعر هو الضربة الأكبر للمشاهدة غير الشرعية. فإذا كنت ستشاهد مجموعة هائلة من أفضل الأعمال السينمائية والدرامية مقابل هذا المبلغ الزهيد، فما الذي يدفعك إلى مواقع القرصنة؟

لا يتصور  سلامة أن يتحول العرض على “الشاشة الذهبية” التي يحلم بها كل صانع سينما، إلى عرض على “الشاشة الفضية”، التلفزيون، ثم إلى عرض هزيل على الشاشة “البرونزية؟” الخاصة بالهاتف المحمول أو التابلت.

أما الجزء الثاني فيتعلق بأسلوب التلقّي الجديد: سلامة، مثل غيره من صناع السينما في أرجاء العالم، يحنّ إلى «سحر السينما» الشهير، ويرتبط به. فالسينما، بطبيعتها، فن «شِبه حيّ». صحيح أنه ليس كالمسرح يعقد علاقة مباشرة بين المؤدين والجمهور، لكنه «يوحي» بعلاقة كهذه. هذا الإيحاء لطالما نبع من «الحالة» التي تفرضها قاعة السينما. حالة تعتمد على إخراج حواسك من العالم الواقعي والسيطرة عليها، ثم سحبك، عبر ذلك، إلى العالم «السحري» المتخيل، من خلال شاشة كبيرة الحجم تغطي مجال الرؤية بالكامل، وقاعة مظلمة لا تسمح بتشتت البصر إلى عناصر أخرى، وصوت مهيمن عالٍ يسيطر على حاسة السمع، وشعور بـ«الجمهور» الجالس في القاعة من حولك، التي كانت فيما مضى، قاعة عملاقة تجعلك تشعر أنك في مسرح حقيقي أمام مسرحية يؤديها الممثلون «لايف». كل ذلك إلى جانب «سُلطة» تجعلك لا تستطيع القيام من مكانك لإنجاز مهمة أخرى أو معالجة شأن آخر.

ما يُقلق سلامة في أسلوب المشاهدة الجديد، «المشاهدة المنزلي»، هو خسارته، وهو المخرج السينمائي، لهذه العناصر «السحرية»؛ هذه الخسارة التي بدأت في السيطرة على أسلوب المشاهدة السينمائية، وقد تقضي على قاعات العرض التقليدية تماما في العقد القادم، وتحولها إلى «تذكارات» تاريخية. لا يتصور سلامة أن يتحول العرض على «الشاشة الذهبية» التي يحلم بها كل صانع سينما، إلى عرض على «الشاشة الفضي»، التلفزيون، ثم إلى عرض هزيل على الشاشة «البرونزية؟» الخاصة بالهاتف المحمول أو التابلت.

بالطبع سيختار بعض الشباب مشاهدة هذا العمل وغيره على شاشة «شديدة الصغر». لكن الحقيقة أن منصات العرض الرقمي تسمح لمن يريد بتجربة قريبة نوعًا ما من تجربة «الشاشة الذهبية».

لقد تقلصت دور العرض السينمائي في الحجم نظرًا لطبيعة الاقتصاديات الجديدة، وتقلصت معها مساحة الشاشة. الآن، فعليًّا، يستطيع عاشق السينما الاستثمار في شاشة تلفزيونية كبيرة الحجم (أو بروجيكتور) لا تقل مساحتها كثيرًا عن شاشة العرض في القاعات الصغيرة. يستطيع أن يخلق أجواء الظلام بسهولة، وبسهولة يستطيع شراء سماعات جيدة تخرج صوتًا لا يقل كثيرًا في جودته عن صوت قاعات العرض. فإذا أضاف له صُحبة من خمسة أو ستة أصدقاء (ليس منهم المشاهد المزعج الذي تُجلسه الصدفة خلفك عادة في قاعة السينما)، يمكنه تحقيق ظروف عرض شبيهة في المنزل. فإذا جمعنا ذلك مع مزايا تجنُّب تكلفة «الخروجة السينمائية» بدءًا من سعر التذكرة، والمواصلات، والمرطبات، وغيرها، وليس انتهاءً باختيار «جمهور» متناسق وغير مزعج، وتجنُّب المرور من مرشِّح الرقابة، والإمكانيات الأخرى التي تتيحها منصات المشاهدة حسب الطلب من دبلجة وترجمة، وإمكانية الإيقاف في لحظات الاضطرار، والتنوع الهائل في المادة المعروضة، وغير ذلك، ربما لا يكون المستقبل مظلم تمامًا (بالمعنى السلبي للإظلام) أمام مستقبل «المشاهدة السينمائية» خارج قاعات العرض.

هذه المنصات التي لا تقتصر على «نتفليكس»، بل تمتد إلى «أمازون»، و«ديزني»، و«آبل»، و«هولو» على النطاق العالمي، و«شاهد»، و«واتشت»، و«واجد خليجي»، وغيرها على النطاق العربي) سوف تشكل المستقبل في هذا الاتجاه، وفي اتجاه آخر أيضًا، ألا وهو اتجاه «العمل الدرامي الطويل» المقسم إلى حلقات ومواسم، على حساب العمل السينمائي التقليدي (الفيلم) الذي يستغرق زمنًا محدودًا بساعة ونصف أو ساعتين. لقد اتجهت السينما بثقلها إلى الأعمال المسلسلة. وفي هذا قدر من المنطقية. ففي الصناعة التقليدية القائمة على وسيط العرض التقليدي، لا يمكن إنتاج أعمال «سينمائي» مُسلسلة. مع ذلك، فهناك الكثير من الفرص التي توفرها إمكانية «امتداد العمل».

هناك فرصة لمعالجة أعمال روائية أكثر، وبتفاصيل أكثر، بدلًا من اقتناص الخيط الرئيسي ومحاولة تكييفها على الخط الزمني القصير. ماذا عن القصص الفرعية في الحياة؟ ماذا عن تفاصيل التفاصيل؟ ماذا عن الشخصيات العابرة التي تعطينا دقيقة من عمرها ثم يطردها المخرج قسرًا من الفيلم لأنه «محدود الزمن». كل هذا يفتح آفاقًا هائلة لنوع آخر من السينما، ويبدو أن هذا النوع هو الذي سوف يسيطر على العَشرية القادمة (مع تحسّن خدمة وسرعة الإنترنت، وانتشار بطاقات الدفع الإلكتروني أكثر في مصر والمنطقة العربية، واعتياد المستخدم عليها). ومثلما حازت «الرواية» شعبية أوسع من القصص القصيرة وسط القراء في عصر توقع فيه المتكهنون عكس ذلك، بدعوى أنه «عصر السرعة»، يُنتظر أن يحوز «العمل السينمائي المسلسل» شعبية أوسع من الفيلم في العصر نفسه، مع كل الآفاق التي يمنحها «زمن المنتَج» غير المحدود.