الخيال الأدبي بين النفي والإثبات
هناك توجه لافت فعلًا لقراءة كتب الـ’نون فيكشن’… أعتقد أن هناك توسعًا كبيرًا في نشرها وقراءتها، خصوصًا مع النجاح اللافت الذي يحقّقه بعضها. لكن الخوف أن يظل الـ’نون فيكشن’ أسيرًا لخانة النوستالجيا والذكريات والانطباعات بعيدًا عن العمل البحثي الجاد.
كرم يوسف، الناشرة ومديرة مكتبات “الكتب خان”
الكتابة الأدبية غير الخيالية Non Fiction، ذلك المصطلح الفضفاض الذي يضم أصنافًا واسعة من الأدب، بدءًا من السير والتراجم وأدب الرسائل، وليس انتهاءً بأدب الرحلات، والكتابات الخارجة عن التصنيف. ذلك «الخروج» عن التصنيف هو جزءٌ لا يتجزأ من المصطلح نفسه، المصطلح المعرَّف بالنفي: كتابة «غير» أو Non. مصطلح غريب يوحي بأن الأصل في السرد القصصي هو «التخييل»، وأن ما يكتبه الكاتب، ما لم يؤكد على غير ذلك، هو محض خيال.
لكن السنوات الأخيرة التي شهدت كتاباتٍ صريحة في «واقعيتها»، بمعنى أنها من الناحية الوقائعية والمعلوماتية غير خيالية، أو أنها كذلك في اعتقاد الكاتب على الأقل، شهدت أيضًا كتابة عابرة للأنواع، ليس من حيث كونها وسطًا بين الرواية والقصة، أو القصة والشعر، ولكن كونها وسطًا بين الكتابة الخيالية وغير الخيالية. ولقد أثارت العديد من الأعمال الجديدة هذا الجدل، فنشاهد عملًا مكتوب عليه «رواية» لكنه مبني بالكامل تقريبًا على سيرة ذاتية، واقعية في أحداثها، سيرة «حدثت» من الناحية الوقائعية، بينما يقتصر التخييل فيها أو يكاد على لغة توصيل ما حدث.
لكن متى يبدأ الواقع وينتهي الخيال؟ لعل روايات الكاتب «عادل أسعد الميري» نقطة انطلاق جيدة للإجابة على هذا السؤال.
واقع أم خيال؟
كتب الميري عددًا من الأعمال التي تنتمي صراحة إلى ذلك الجنس الأدبي، مثل «شارع الهرم وفرق موسيقى
الشباب في السبعينيات» (آفاق ٢٠١٥)،وكتابه الأخير «محاولات لاستكشاف مصر» (هيئة الكتاب ٢٠٢٠)، إلا أن رواياته الأشهر مثل «كل أحذيتي ضيقة» (ميريت ٢٠١٠)، و«لم أعد آكل المارون جلاسيه» (ميريت ٢٠١٢)، و«تسكُّع» (آفاق، ٢٠١٥)، و«خيوط أقمشة الذات» (إبييدي ٢٠١٩) تنتمي أيضًا على نحو أو آخر إلى الأدب «غير الخيالي» من حيث وقائعيتها في حياة الكاتب نفسه، كما يذكر هو بلا مواربة.
في أكثر من لقاء جمعني معه، سألته عن سبب وضع كلمة «رواية» على أغلفة كتبه، برغم أنها تمثل خطًّا متصلًا من مقاطع سيرة ذاتية وذكريات شخصية، فأجابني قائلًا إنه يعتبر كلمة «رواية» مفردة جامعة لكل أشكال وألوان الكتابة الذاتية، الحرة، المتدفقة. ويرى أن كل أشكال السرد التي استوعبت تجاربه وخبراته المتعددة في الحياة تنضوي تحت مسمى «رواية».
رواية «المولودة» (الكرمة- ٢٠١٨) التي حازت جائزة ساويرس في الرواية، والمكتوبة بالكامل على لسان والدة الكاتبة التي تحكي سيرتها العائلية باللغة العامية، أثارت جدلًا مشابها، بل واعترض البعض على منحها الجائزة بحجة أنها ليست رواية وإنما عمل أدبي «غير خيالي». بل وأقرّت الكاتبة نفسها أنها تنتمي إلى «الرواية التسجيلي». فهل تنتمي «الرواية التسجيلية» إلى عالم «الرواية» الخيالي أم إلى العالم الضدّ، غير الخيالي؟
«التجربة» الذاتية، و«البحث عن الذات» من أشهر التيمات السردية، سواء صُنِّفت كرواية، أو سيرة ذاتية، أو مذكرات. وبين الفروقات الثلاثة تكون رهيفة أحيانًا، تجعلها تقفز من صنف إلى صنف. فمثل «روايات» الميري وكتاباته غير المصنّفة (على الأقل على الغلاف)، تأتي أعمال أخرى يسأل فيها المؤلف أسئلته الذاتية والوجودية من خلال رجوعه إلى ذكرياته الخاصة (غير الخيالية)، ولعل كتاب ياسر عبد اللطيف، «في الإقامة والترحال» (الكتب خان- ٢٠١٤)، واحدًا من تلك المحاولات، خاصة بعد روايته الأشهر «قانون الوراثة» (ميريت، ٢٠٠٢)، المستوحاة بدورها من ذكريات الكاتب في شبابه.
يقول عبد اللطيف، الشاعر والروائي والقاص: «الأدب العربي تمحور خلال تاريخه حول هذا التصنيف الذي يتسع ليشمل التراجم، والسير الذاتية، وأدب الرحلة، والرسائل، وأشكال التأريخ النوعي والعام. فإذا نظرنا إلى الأدب العربي الحديث، نجد أن الأسماء الكبيرة التي كُرست منذ بدايات القرن العشرين قدمت جلّ إنتاجها تحت هذه اللافتة. وظهر فن القصّ خجولًا في البداية، ولم يكتسب شرعيته الكاملة إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. نعرف جميعًا (محمد حسين) هيكل باشا الذي وقّع رواية ‘زينب’ في طبعتها الأولى باسم ‘مصري فلّاح’، ونعرف العقاد الذي كتب روايته الوحيدة ‘سارة’ وكأنه يعتذر عنها. وحتى يحي حقي وتوفيق الحكيم لديهما إنتاج ‘غير تخييلي’ في معظمه (باستثناء مسرح الحكيم)، ناهيك بالطبع عن الجيل الأكبر مثل طه حسين، والمازني، والرافعي، وسلامة موسى وغيرهم».
ويرى عبد اللطيف أن القصّ «كتخصّص أدبي مستقل ذي جدارة» لم يظهر إلا في جيل نجيب محفوظ، ولم يتبلور إلا في «شخص» الكاتب الكبير نفسه، «بشغفه بهذا الفن دون سواه، ودأبه ومنجزه الاستثنائي». ويضيف أن عودة الأدب غير الخيالي في الآونة الأخيرة تعكس «الإشكالية التي كبَّلت الروايةُ العربيةُ نفسَها بها مؤخرًا، إذ أصرّت على تقديم نفسها كسلعة مصنّعة، بلا قيمة مضافة، في سوق شديدة الضعف».
الحلوة والمرة..
ينقلنا ذلك إلى صنف آخر من «الروايات اللا-خيالية» في «الدنيا أجمل من الجنة: سيرة أصولي مصري» الذي صدر في طبعة دار النهار (٢٠٠٢) ثم في طبعة مزيدة بعد ترجمته إلى الإنجليزية (ميريت ٢٠٠٩) يناقش الكاتب سؤال «التحول الأيديولوجي»، من عضو بالجماعة السلفية إلى كافر بمعتقداتها. على النهج نفسه، نهج المراجعات الشخصية والإيديولوجية، سار الكاتب سامح فايز في كتابه «جنة الإخوان: رحلة الخروج من الجماعة» (التنوير ٢٠١٣). وربما إلى هذا الصنف تنتمي أيضًا «سرديات يناي»، وما أكثرها، حيث امتلأت المكتبات في فترة بكتب سمينة وغثة تحكي عن «ذكريات الثورة» وتجاربها بصورة غير خيالية.
وعن الانطلاق من حدث جوهري في الماضي، ليس في الصبا أو الشباب المبكّر، ولكن في سن النضج، يأتي كتاب «حِرز مكمكم» لأحمد ناجي (صفصافة، ٢٠٢٠)، ليسجّل تجربة من أقسى التجارب الإنسانية: تجربة السجن. يحكي ناجي -الذي يرفض تصنيف نصّه ضمن «أدب السجون«– عن أوضاع السجن وقصص النزلاء، وهُم هذه المرة ليسوا رفاق نضال سياسي، ولكن مسجونين جنائيين. كذلك نرى تجربة المرض الأخير في كتاب الشاعر الراحل أسامة الدناصوري «كلبي الهرم.. كلبي الحبيب»، الصادر في وقت مبكر (ميريت، ٢٠٠٧)، تحت تصنيف «رواية».
وعلى عكس التجارب القاسية سالفة الذكر، لدينا كتب «الحنين إلى الماضي»، حيث يتم انتقاء «الذكريات الحلوة» وتقديم محاسن الماضي التي عفا عليها الزمن. هنا، ولغياب أسئلة الذات والوجود والتحول الدرامي العنيفة، غالبًا ما يخلو الغلاف من كلمة «رواية». ولعل أبرز الأمثلة على ذلك كتابات الشاعر والصحفي عمر طاهر المختلفة، بحنينها الواضح، واستدعائها لعلامات ثقافية وذاتية رائجة، والتي لاقت إقبالًا شديدًا بين الشباب وطُبعت طبعات عديدة. وقد أصدر بعضها مع دار أطلس للنشر، وأطلق عليها، هو والناشر، اسم «ألبومات»، ومنها «شكلها باظت» (٢٠٠٥)، و«كابتن مصر» (٢٠٠٨)، و«ابن عبد الحميد الترزي» (٢٠٠٨) و«رصف مصر» (٢٠١٠)، علاوة على كُتب لم تحظ بتصنيف وإن حظيت بشعبية واسعة، وقُدمت على نحو أكثر تطورًا وإحكامًا مثل «صنايعية مصر: شاهد من حياة بعض بناة مصر في العصر الحديث» (الكرمة، ٢٠١٦)، و«إذاعة الأغاني: سيرة شخصية للغناء» (الكرمة ٢٠١٥).
ومن الكتب الأكثر مبيعًا مؤخرًا مما تتناول «الزمن الجميل» كتابا «كنتُ صبيًّا في السبعينيات: سيرة ثقافية واجتماعية» (الكرمة، ٢٠١٥) وجزؤه الثاني «كنتُ شابًّا في الثمانينيات» (الكرمة، ٢٠٢٠)، لمحمود عبد الشكور.
يقول عبد الشكور: «عندما قرأت ردود الأفعال على الكتابين، وجدت أن الكثيرين لاحظوا تعدد الأساليب داخل الكتاب، ولفتوا إلى تعدد زوايا الرؤية، وصعوبة تصنيفه، رغم أنه في إطاره العام ذكريات شخصية. لكن أجزاء كثيرة منه تشبه السرد الروائي وتستعير بعض تقنياته، وأجزاء أخرى أقرب إلى الدراسة النقدية والمسح الاجتماعي والتوثيق التاريخي. هناك أجزاء كُتبت بعين طفل، وأخرى كُتبت بوعي ناقد».
ويضيف «لم أتعمد الشكل، وإنما أردت الكتابة بحرية تامة، بشكل يستطيع استيعاب ذلك الطوفان من الذكريات الذي هاجمني. هكذا خرج النص حرًّا، وهكذا انسقتُ معه، ولم أعنَ بحكاية التصنيف».
الذات والآخر
حتى الروائيَّان المخضرمان إبراهيم عبد المجيد وحجاج أدول غامرا في أشكال بعيدة عن الرواية الصريحة واختارا «الأدب غير الخيالي»، وذلك في كتاب «الأيام الحلوة فقط» (بيت الياسمين، ٢٠٢٠) للأول، الذي يحكي عن فيه عن ذكرياته الجميلة مع عدد من الكتاب والفنانين؛ وكتاب «خللي بالك من زوزو» (بدائل، ٢٠٢٠) للثاني، الذي يحكي فيه عن ولعه بالفنانة سعاد حسني منذ شبابه المبكر.
في هذه الأعمال قد تنعكس «الذات» في «الآخر»، حيث يحاول الكاتب البحث عن ذاته من خلال قصص الآخرين؛ وضمنها أعمالٌ أُطلق عليها اسم «بورتريهات»، من بينها أعمال الكاتب الراحل مكاوي سعيد، وأشهرها كتاب «مقتنيات وسط البلد: كتاب عن الشخصيات والأماكن» (الشروق، ٢٠١٠)، الذي وصفه قائلًا إنه «من الكتب الملتبسة عليّ. لا أستطيع تصنيفه تحت أي نوع من أنواع السرد. قد يكون رواية أو سيرة أو أي شيء آخر. وهذا في حد ذاته لا يعنيني، ما يعنيني هو الكتابة فقط».
وإلى هذه الفئة أيضًا تنتمي بعض أعمال الشاعر إبراهيم داود، ومنها «طبعًا أحباب: جولة في حدائق الصادقين» (هيئة قصور الثقافة، ٢٠١٩) الذي رسم فيه صورًا لعدد ممن تأثر بهم من مشاهير الفن والثقافة، وكتاب «الجو العام» (ميريت، ٢٠١١) الذي اصطحبنا فيه إلى جولة بين أشخاص غير عاديين في عاديّتهم ممن قابلهم في حياته.
أما الروائي حمدي أبو جليل، فبعد كتابي «القاهرة شوارع وحكايات« (هيئة الكتاب، ٢٠٠٨) و«القاهرة جوامع وحكايات» (هيئة الكتاب، ٢٠١٣)، وضع كتابًا رقيقًا عن علاقته بالشاعر الراحل أسامة الدناصوري بعنوان «الأيام العظيمة البلهاء» (ميريت، ٢٠١٧).
ثم هناك الآخر الذي لا يعكس الذات بالضرورة، لكنه قد يجيب عن بعض أسئلتها: أحمد عبد المنعم رمضان في كتابه (غير الخيالي) «صورة مع أنور وجدي» (آفاق، ٢٠٢٠)، اختار الفنان الشهير ليرسم صورة للعصر الذهبي للسينما، وربما لمصر عمومًا، في لحظة تاريخية انقضت.
يذكِّرنا هذا بطلال فيصل، الذي اختار بعناية شخصيتين فنيتين لم تغادرا عالمنا من زمن بعيد، ليكتب عنهما عملين نصف روائيَّيْن نصف خياليَّيْن؛ الأول هو «سرور» (الكتب خان، ٢٠١٣) عن الشاعر نجيب سرور، والثاني هو «بليغ« (الشروق ٢٠١٦) عن الموسيقار بليغ حمدي.
هناك أيضًا الكتابة عن الموضوع: كَتبت الشاعرة إيمان مرسال منذ ثلاثة أعوام كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها» (كيف تـ، ٢٠١٧) لتناقش مسألة الأمومة، وأصدر الشاعر عمرو عزت كتابه «غرفة ٣٠٤: كيف اختبأتُ من أبي العزيز ٣٥ عاما» (الشروق، ٢٠١٩) ليسائل العلاقة مع الأب.
مرسال، الشاعرة أصلًا، أصدرت مؤخرا كتابًا أثار استجابة نقدية واسعة النطاق، بعنوان «في أثر عنايات الزيات»، سردت فيه رحلة بحثها عن كاتبة مصرية عاشت حياة قاسية، وقَضت منتحرة وهي في العشرينيات من عمرها عام ١٩٦٣.
مثل ياسر عبد اللطيف، تؤكد مرسال على القاعدة التاريخية المستقرة «للأدب غير الخيالي» العربي، وتقول: «تاريخ الأدب العربي منذ عصره الذهبي قدّم أنواعًا مختلفة من هذا السرد. «العقد الفريد»، «الحيوان»، «البخلاء»، «طوق الحمامة»، «رسالة الغفران»، «التوابع والزوابع»، كلها تنتمي إلى هذا النوع. أضف إليها كتب التراجم وأدب الرحلة والجغرافيا. بل حتى داخل كتب تفسير القرآن والفقه قد تجد ذلك السرد الفني/ غير النوعي الذي يسهم في إنتاج المعرفة».
وتضيف مرسال: «الأدب العربي مثل غيره من آداب العالم يمر بانقطاعات واتصالات مع قديمه، وقد شهد القرن التاسع عشر موجة جديدة من السرد الفني، من أشهرها ربما: ‘تخليص الإبريز’ و’الساق على الساق’. فلا الأول مجرد أدب رحلة، ولا الثاني مجرد سيرة ذاتية. في الكتابين هناك وضعية معقدة لمن يكتب، وهناك بحث وأفكار وتجربة شخصية تنتج معًا طبقات من السرد الفني. هناك طموح لإنتاج المعرفة دون الانشغال بتصنيف نوعها الأدبي. وقد امتد ذلك إلى أسماء مثل المنفلوطي والمازني ويحيى حقي، وحتى صلاح عيسى، وعبد المنعم شميس، وحازم صاغية، وغيرهم».
أمّا عن تجربتها في كتابها الأخير فتقول: «قد يحدث أن تجد أسئلة الكاتب نبرة صوت، وبناء، ومزاج عام يسيطر على التجربة كلها. مهمة الكاتب أن يُنمِّي بصيرته، وأن يمسك بهذه الخيوط، لا أن يفرضها على نصّه. في هذا الكتاب دفعتني رغبتي في عدم التحدث باسم عنايات إلى الانتباه إلى تجاور اللغات في قصتها: لغة القانون، الطب النفسي، الطبقة الاجتماعية، وغيرها. الأمر الذي قربني من لحظتها التاريخية وسياقها.
«عدم وجود أرشيف شخصي لها جعلني أتساءل عما هو غائب أو مستبعَد فيما وجدته من مادة قليلة. أثناء هذه العملية، يتشكل الكتاب ويُخترع نوعه الأدبي. مثلًا، في البداية، لم أتخيل أن أكون حاضرة كإحدى شخصيات الكتاب، لكن سردي لرحلة البحث منحتني مجازًا ظَلّ مُولِّدًا لمشاهد كثيرة. هكذا خرجَت التجربة أشبه بلوحة تظهر فيها يد الرسام وهو يرسمها».
تنوع الموضوعات
وبعيدًا عن الموضوعات التي تتناول «الذات» أو «الآخر» على نحو مباشر، ثمة كتابات غير خيالية تتناول «موضوعات« مختلفة؛ مثل موضوع كرة القدم، الذي يظهر في أعمال «مصر وكرة القدم: التاريخ الحقيقي.. أين وكيف بدأت الحكاية» (المصرية اللبنانية، ٢٠١٨) لياسر أيوب، و«حروب كرة القدم» (العين، ٢٠١٠) لياسر ثابت، و«كل شيء أو لا شيء: عن الكرة وأحلام غرف الملابس» (أوراق، ٢٠٢٠) لمحمد البرمي.
وبعيدًا عن الكرة، لدينا «كتاب النوم» (الكرمة ٢٠١٧) لهيثم الورداني، المهموم بسؤال النوم وعلاقاته الوجودية بالإنسان، وكتاب «غذاء للقبطي: دروس من المطبخ القبطي» (الكتب خان، ٢٠١٧) لشارل المصري.
الموضوع القبطي يبدو صاحب نصيب واضح في الأدب غير الخيالي، من هموم عادل أسعد الميري الواضحة في أغلب كتاباته كقبطي في مجتمع ذي أغلبية مسلمة، إلى كتاب «غذاء للقبطي» الذي يطوف بنا في المطبخ القبطي، إلى كتاب «كنتُ طفلًا قبطيًّا في المنيا» (مجاز، ٢٠٢٠)، لمينا عادل جيِّد الذي يُفصح عنوانه عن مكنونه، حيث يستعيد المؤلف ذاكرة الطفولة ليحكي مشاهداته الحيّة لحياة أسرة مصرية قبطية تعيش في محافظة المنيا خلال الفترة من ١٩٩٣ إلى ١٩٩٩، ويضعه الناشر «في مصاف النصوص الإثنوجرافية الدقيقة التي يكتبها هواة من غير المتخصصين في علم الأنثروبولوجيا الثقافية».
كذلك أثار كتاب محمد شعير «أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة» (العين، ٢٠١٨) استجابة نقدية واسعة، حيث قَدَّم لسيرة عصرٍ من خلال ما كُتب عن رواية نجيب محفوظ الشهيرة المثيرة للجدل.
ولعل من رواد هذا النوع بين الكتاب المعاصرين الكاتب عزت القمحاوي، الذي عرَّف الناشر كتابه الأخير، «غرفة المسافرين» (المصرية اللبنانية، ٢٠٢٠) بأنه: «ليس رواية، ليس سيرة ذاتية للمؤلف، ليس كتابًا في الرحلة، ليس كتابًا في الفلسفة، ولا في العمارة، وليس كتابًا حول القراءة، ولكنه كل ذلك». يأتي هذا الكتاب امتدادًا لتاريخ عزت مع الكتابة الأدبية غير الخيالية، بداية من كتابه «الأيك في المباهج والأحزان» (الهلال ٢٠٠٢)، الذي يضم تأملات وكتابات وخبرات وحكايات حول «الحواس»؛ يليه «كتاب الغواية» (العين، ٢٠١٠) الذي صيغ في صورة رسائل غرامية بين كاتب وكاتبة.
المبيعات والجوائز
في المكتبات أيضًا أصبحت هذه النوعية من الكتب تؤدي أداء طيبًا، وتصل أحيانًا إلى قوائم الأعلى مبيعًا. يقول محمود لطفي، مؤسِّس مكتبة تنمية مع شقيقه خالد، «كُتب الـ’نون فيكشن’ عامة مبيعاتها في العالم كله أقل من كتب الـ’فيكشن’، وكان هناك تصوّر شائع بأن قراءة هذا النوع في مصر قليلة جدًّا، لكن من تجربتنا في المكتبة يؤكد الواقع غير ذلك. فبعد أن افتتحنا مكتبتنا (عام ٢٠١١) وبدأنا في توفير الإصدارات التي لم تكن متوفرة في مصر وجدنا إقبالًا كبيرًا عليها. كانت المشكلة بالأساس في عدم توفُّر هذا النماذج. ثم تطوَّرَ الاهتمام بعد ذلك بهذه النوعية من الكتب من قِبل دور النشر التي سارعت بإصدار كتب السيرة وأدب الرسائل، وصارت مبيعاتها تتخطى في أوقات ليست قليلة مبيعة الروايات. حتى الكتب العلمية أصبحت مطلوبة. هذا الأمر دفعنا إلى أن نُصدر، كدار نشر، عددًا من كتب الـ’نون فيكشن’ المترجمة، التي صارت ضمن الأكثر مبيعًا لدينا، ككتاب «المحجوبات» لمارجوت لي شيترلي، و«الخروج للنهار: كتاب الموتى» و«متون الأهرام» المترجمَيْن عن اللغة المصرية القديمة».
أما كرم يوسف، الناشرة ومديرة مكتبات «الكتب خان»، التي نشرت عددًا من أبرز أعمال هذا الصنف الأدبي فتقول: «هناك توجه لافت فعلًا لقراءة كتب الـ’نون فيكشن’. فبخلاف الكتب العربية، أصدرنا ترجمات «عن الحشيش» لفالتر بنيامين، ونثريّات بيسوا، وخطابات فان جوخ، وغيرها. أعتقد أن هناك توسعًا كبيرًا في نشرها وقراءتها، خصوصًا مع النجاح اللافت الذي يحقّقه بعضها. لكن الخوف أن يظل الـ’نون فيكشن’ أسيرًا لخانة النوستالجيا والذكريات والانطباعات بعيدًا عن العمل البحثي الجاد».
يبدو الحراك الملحوظ باتجاه الأدب غير الخيالي، أو بالأحرى باتجاه عدم التقيد بسلطة الأدب الخيالي (الرواية/ القصة) عفويًّا، لكن ثمة تحركات قد نلاحظها من حين إلى آخر، فالكتابة الناجحة والتي تحقق مبيعات مرتفعة تشجِّع على تبديد التخوف تجاه مغامرة الكتابة في هذا النوع.
بعض الحراك كان مقصودًا، مثل سلسلة «كيف تـ»، التي أسَّستها مها مأمون وآلاء يونس عام ٢٠١٢، والتي تصف نفسها بأنها «مشروع نشر يوظِّف شعبية كُتب الأدلّة للتعامل مع بعض احتياجات اليوم سواء كانت مهارات أو أدوات أو أفكار أو إدراكات أو مشاعر. تجمع هذه الكتب ما بين التقني والتأملي، بين التعليمي والفطري، وبين الحقيقي والخيالي». والملحوظ أن في هذه السلسلة بدأت إيمان مرسال الكتابة في هذا الصنف غير الخيالي «كيف تلتئم»، وكتب هيثم الورداني «كيف تختفي» (٢٠١٣)، وكتب محمود عزت «كيف تتذكر أحلامك» (٢٠٢٠).
ربما العثرة الوحيدة الباقية لإطلاق كوابح الخوف من الأدب غير الخيالي هي الجوائز. حتى الآن لا توجد جائزة عربية مخصصة لهذا النوع، ولعلها إن وُجدت ستواجه عقبة «التعريف»، فالتعريف بالنفي لن يكفي في هذه الحالة. لكنها ليست عقبة مستحيلة. لقد وصلت «سيرة الرواية المحرمة» إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد فرع «الفنون والدراسات النقدية»، وأثناء كتابة هذه المقالة، أُعلن عن وصول كتاب مرسال «في أثر عنايات الزيات»، وكتاب القمحاوي «غرفة المسافرين» إلى القائمة الطويلة للجائزة نفسها فرع «الآداب» أما كتاب «المولودة» سالف الذكر، فحاز (مناصفة) جائزة ساويرس «للرواية» فرع كبار الكتاب عام 2018. ولعلنا نرى في السنوات القليلة القادمة جوائز عربية مخصصة لهذا النوع من الأدب.
نماذج
في أثر عنايات الزيات
الكاتبة: إيمان مرسال
الناشر: الكتب خان، ٢٠٢٠
نص فريد وسرد متميز يجمع بين التحقيق الصحفي، والدراسة الأدبية، والرؤية الذاتية، والموقف الإنساني الذي يمكن رصده وفهمه من أكثر من زاوية ووجهة نظر. الكتاب ليس دراسة نقدية ولا سيرة واضحة، لكنه تتبع لأثر من خلال تقنيات سرد تقترب من الرواية البوليسية، التي عادة ما تقوم على وضع القرينة بجوار القرينة في سياق يحاول فهم سر انتحار كاتبة شابة لم تبلغ الثلاثين، وصدور روايتها الوحيدة بعد موتها. رحلة مثيرة، تبدأ بالدهشة ثم السؤال، فتتبُّع الأثر، فالنهاية.
في الإقامة والترحال
الكاتب: ياسر عبد اللطيف
الناشر: الكتب خان، ٢٠١٤
مقالات ترتدي ثوب القصص والحكايات الواقعية. لغتها سلسلة، مصورّة، وشاعرية أحيانًا. بطلها يعيش في كندا بحكم العمل، ويسكن في عابدين بحكم الذاكرة الأولى، ويقيم في باب اللوق بحكم الصبا، وتسكنه المعادي بحكم سنوات التمرد. مزجٌ محكًم بين استدعاءات الذاكرة والتداعي الحر بين الذكريات والتأمل والاستبطان الذاتي. من خلال السرد، ينقل الكاتب للقارئ رائحة المكان، أصواته، أغانيه، أحلامه الضائعة. ودائمًا تحضر الذات المتأملة.
غرفة المسافرين
الكاتب: عزت القمحاوي
الناشر: المصرية اللبنانية، ٢٠٢٠
كتاب عصي على التصنيف، فهو ليس أدب رحلات بالمفهوم التقليدي، لكنه تأملات في فكرة السفر نفسها من منظور ذاتي، يختبرها في الـمُدن والجُزر، مثلما يختبرها في الفكرة والمعنى والوسائل والأدوات والحقائب والفنادق. ويختبرها أيضا بذكاء ثاقب في أعمال أدبية وروائية يلعب السفر والترحال دورًا مهمًّا في أحداثها.
خيوط أقمشة الذات
الكاتب: عادل أسعد الميري
الناشر: منشورات إبييدي، ٢٠١٩
رحلة حياة يكثفها صاحبها في محطات مفصلية، لا يرتدي قناعًا، ولا يخشى من وصف الأشياء بمسمياتها. يبدأ بالقبيلة/ العائلة والجذور، ومن خلالهم يستكشف طريقة التربية التي صنعته. يبدو أسيرًا لنظام عائلي محكَم، يأخذه إلى دراسة الطب. يتسع العالم قليلًا بالخروج إلى المدرسة. يتسع أكثر فأكثر مع اكتشاف القراءة والكتب والسينما. يسجل بعضًا من أحلامه. تتحرر مخاوفه ورغباته. وتتحرر الذات المثقلة بمكابدات الأيام والسنين.
كنت شابًّا في الثمانينيات
الكاتب: محمود عبد الشكور
الناشر: الكرمة، ٢٠٢٠
مثلما في الجزء الأول من سيرته الثقافية والاجتماعية في سبعينيات القرن الماضي، يمضي عبد الشكور على المنوال نفسه في الجزء الثاني. الذاكرة هي المنبع والمصبّ، منها ينتقي ويستلهم، ثم يربط ويحلل، ويقدم خلاصة رؤيته في النهاية. يبدأ بالتحاقه بالجامعة. أربع سنوات في كلية الإعلام تقتضي انفصالًا عن الأسرة، واستقلالًا بالذات، وحديثًا مفصَّلًا عن تجربة «المدينة الجامعية« المكتظة بالذكريات والوقائع والشخوص. يمزج الكاتب الذاتي بالموضوعي، والشخصي بالعام.
غذاء للقبطي
الكاتب: شارل عقل
الناشر: الكتب خان، ٢٠١٨
بحسٍّ لا يخلو من السخرية المحلّاة بالتأمل والنظر، واستنفار شهي لحاستيّ الشم والتذوق، يعرض الكتاب لوصفات وقوائم الطعام التي يفضلها المصريون الأقباط في وجباتهم اليومية ومناسباتهم الدينية طوال العام. ويمثل هذا الموضوع الطريف مدخلًا لتعرُّف عميق واستكشاف ثقافي مذهل لثقافة المجتمع المسيحي المصري بتشكيلاته ومكوناته ونظراته للعالم وتصوراته للكون والحياة والمجتمع.